لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

في العصور المتأخرة زمن الغربة وانتشار الفتن أصبحت الألقاب الفخمة والأوصاف العظيمة كلأ مباحا يطلقه من شاء على من شاء، فكثيرا ما تجد اسم المنافق أو إمام الضلالة بل حتى الكافر مسبوقا بهالة تقديس وتعظيم كاذبة تخدع الأمة عن حقيقة هؤلاء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فإذا اكتشف الناس يوما ما حقيقة بعض هؤلاء أصيب كثيرون بصدمة وانتكاسة لظنهم أن تلك الألقاب الكاذبة كانت تعني تزكية هؤلاء الأشخاص المنحرفين.

لذا كان من المهم التذكير بأدب من الآداب النبوية المتعلقة بالحديث عن المنافق ومن شابهه، وهو أدب عدم إطلاق كلمة السيد عليه؛ فعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل»، وفي رواية: «لا تقولوا للمنافق: سيدنا؛ فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم» رواه أبو داود في سننه وأحمد في المسند وغيرهما، وصحح إسناده المنذري والنووي وغيرهما.

هذا الحديث يبين أدبا من آداب الإسلام التي لها تعلق بالظاهر والباطن وبالولاء والبراء وبشؤون المسلمين العامة والخاصة، فالحديث متعلق بالمنافقين وبطريقة مخاطبتهم وبواقع المنافقين في المجتمع المسلم، ويتضح ذلك فيما يلي:

1- من هو المنافق؟

المعنى المحوري لمادة “نفق” تعني كما في المعجم الاشتقاقي: “إذهاب حشو الشيء المصمَت الجوف فيفرغ باطنه مع بقاء ظاهره ملتئمًا”، وأصل النفاق في الاصطلاح كما في لسان العرب: “الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر، مشتق من نافقاء اليربوع، إسلامية، وقد نافق منافقة ونفاقا، وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسما وفعلا، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه..، وفي حديث حنظلة: “نافق حنظلة”، أراد أنه إذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم أخلص وزهد في الدنيا، وإذا خرج عنه ترك ما كان عليه ورغب فيها، فكأنه نوع من الظاهر والباطن ما كان يرضى أن يسامح به نفسه. وفي الحديث: «أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها» أراد بالنفاق هاهنا الرياء لأن كليهما إظهار غير ما في الباطن”.

فالنفاق الأكبر هو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر، والنفاق الأصغر هو العمل ببعض أعمال المنافقين والتخلق ببعض أخلاقهم مع بقاء أصل الإيمان في القلب.

والقلوب لا يطلع عليها إلا الله، فمعرفة المنافق تكون بما ظهر منه من دلائل تبين أنه يخفي في قلبه غير ما ظهر منه، وهي دلائل تفيد في تنزيل بعض أحكام النفاق على المرء بقدر ما ظهر منه، ولكنها لا تكفي للحكم عليه بالكفر؛ لأنه لو قامت عليه البينة التامة بذلك فهو كافر في الظاهر لا مجرد منافق، قال ابن تيمية في الصارم المسلول: ” كانوا يظهرون الإسلام، ونفاقهم يُعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون، وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله، وعامتهم يُعرفون في لحن القول كما قال الله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم، ثم قال: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فأقسم أنه لا بد أن يعرفهم في لحن القول، ومنهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول والعمل منهم كما في سورة براءة، ومنهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والأمارات، ومنهم من لم يكن يُعرف كما قال تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)، ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون أنهم مسلمون وقد اتخذوا أيمانهم جنة”.

فالاتصاف بصفات المنافقين التي وردت في القرآن والسنة هو المعيار الذي يحدد المنافق المتجذر في النفاق أو الذي غلبت عليه صفات النفاق، وهي صفات كثيرة؛ منها: كذب الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والغدر في العهد، والحلف الكاذب، ومودة الكفار والأعداء والانبساط إليهم وطاعتهم في بعض الأمر، والتآمر معهم ضد المجاهدين، والغيظ عند انتصار المسلمين، واجتماع الهموم إن جاء الأمر بالقتال، والتعلل بالأعذار الكاذبة للتخلف عن الجهاد، والجبن عند الجهاد، والتربص بالمؤمنين الدوائر، والإرجاف، ومحبة شيوع الفاحشة في المؤمنين، واتخاذ مجالس الضرار، والاستهزاء بالمسلمين، واتباع الشهوات والشبهات، والكسل عند القيام لأداء العبادات..، وغير ذلك كثير.

2- من هو السيد؟

قال في لسان العرب: “السيد يطلق على: الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، ومحتمل أذى قومه، والزوج، والرئيس، والمقدم..، السيد: الذي يفوق في الخير”.

وفي المعجم الاشتقاقي: “ساد الرجل: عظم وشرف ومجد. وساد قومه: صار سيدهم.. السيد: الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع”.

فكلمة السيد لها استعمالات متعددة حسب السياق، فهي اسم لله تعالى، ولا يجوز إطلاقها بهذا المعنى وهو السيادة التامة على غير الله جل وعلا، وتطلق الكلمة على البشر ويراد بها الشرف والتفوق بالنسبة لمن أطلقها، فسيد ولد آدم جميعا هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم» رواه مسلم، وسيد قوم هو شريفهم ومقدمهم، كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» متفق عليه.

وقد تطلق على مالك العبد كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي» متفق عليه.

وقد تطلق على الزوج، كما في قوله تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ).

والذي يظهر أن النهي عن إطلاق لفظ السيد على المنافق المقصود به أصالة معنى رئيس القوم وشريفهم ومقدمهم، فلفظ السيد بمعنى الرب لا يجوز إطلاقه على مخلوق مطلقا، ولفظ السيد بمعنى السيادة البشرية العامة لا يطلق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنهي عن إطلاق السيادة على المنافق يراد به أصالة السيادة المخصوصة في قوم وملأ، فأشقياء الكفار ينادون في جهنم: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)، لذا يُمنع المسلم من أن يقول عن المنافق: السيد أو سيدي، ويمكن أن يخصصه بمن هم مثله، أي سيد المنافقين وما شابه، كما في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وفيها: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» رواه البخاري، وكلمة عظيم الروم ترادف سيد الروم.

وتلحق بكلمة السيد ما في معناها من كلمات التعظيم والتبجيل سواء كانت باللغة العربية أو بغيرها من اللغات، قال ابن القيم في زاد المعاد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام: “وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك”.

3- سبب المنع من إطلاق السيد على المنافق:

عدد العلماء حكما للمنع من إطلاق كلمة السيد على المنافق، ومن ذلك:

أ- أن المنافق لا يستحق التعظيم وإن كانت معه بعض الدنيا؛ لأن نقص دينه غطى عليه، فتعظيمه منكر منهي عنه، قال الطحاوي في مشكل الآثار: “السيد المستحق للسؤدد هو الذي معه الأسباب العالية التي يستحق بها ذلك، ويَبين بها عمن سواه ممن ساده..، فكان من يستحق هذا الاسم والكون بهذا المكان من هذه صفته، وكان المنافق بضد ذلك، ولما كان كذلك لم يستحق به أن يكون سيدا، وكان من سماه بذلك واضعا له بخلاف المكان الذي وضعه الله بذلك، وكان بذلك مسخطا لربه”.

وقال العظيم آبادي في عون المعبود: “أغضبتموه لأنه يكون تعظيما له وهو ممن لا يستحق التعظيم”.

ب- أن المنافق إن لم يكن معه بعض الدنيا أصلا فتسويده كذب كذلك، قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح: “إن لم يكن سيدا بأحد من المعاني، فإنه مع ذلك يكون كذبا ونفاقا وفاقا”، وقال ابن الملك في شرح المصابيح: “وإن لم يكن كذلك فقد كذبتم”.

ت- أن الاعتراف بسيادة المنافق اعتراف بحقه في الطاعة، وفي طاعته سخط الله تعالى، قال الطيبي في شرح المشكاة: “إن يك سيدا لكم فيجب عليكم طاعته، فإذا أطعتموه فقد أسخطتم ربكم”.

ث- أن إطلاق السيد على المنافق إعلام بعلو مقامه عن مقام القائل، فأشعر ذلك أن حال القائل أسوأ من حال المنافق، قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: “فإنه إن كان سيدكم وهو منافق فحالكم دون حاله، والله لا يرضى لكم ذلك”.

ج- أن توقير المنافق فتنة للناس، قال الشاطبي في الاعتصام عن توقير المبتدع -ومثله توقير المنافق-: “توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم: إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم. والثانية: أنه إذا وُقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء”.

ح- أن تسويد المنافق خلاف ما ينبغي له من زجر وإهانة، قال تعالى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)، وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، ونقل الهيتمي في الفتاوى الفقهية قول العز بن عبد السلام “ينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجرا عن كفرهم وفسقهم وغيرة لله عز وجل”، وقال الصابوني في عقيدة السلف: “واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم”.

4- المنع من التسويد يشمل المنافق ومن يلحق به:

لما كان أصل النفاق مخالفة الجوارح لما في القلب، كان الإعراض الظاهر عن الشريعة قرينة على النفاق، ولذا ألحق العلماء الفساق والمبتدعة بالمنافقين في عدد من الأحكام ومنها المنع من تسويدهم، فقد بوب النووي في رياض الصالحين لحديث «لا تقولوا للمنافق: سيد» بقوله: “باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بِسَيِّد ونحوه”، وقال كذلك النووي في الأذكار: “وإن كان فاسقا أو متهما في دينه أو نحو ذلك كره أن يُقال لهُ: سيدٌ”.

ومن البديهي أن النهي عن إطلاق سيد على المنافق يدخل فيه من باب أولى النهي عن إطلاقها على الكافر، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: “فصل: خطاب الكتابي بسيدي ومولاي. وأما أن يخاطب بسيدنا ومولانا ونحو ذلك فحرام قطعا وفي الحديث المرفوع: «لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم» وأما تلقيبهم بمعز الدولة وعضد الدولة ونحو ذلك فلا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يسمى سديدا ولا رشيدا ولا مؤيدا ولا صالحا ونحو ذلك، ومن تسمى بشيء من هذه الأسماء لم يجز للمسلم أن يدعوه به”.

وقال المرداوي في الفروع: “قال أبو جعفر: والقول في هذا أنه لا يجوز أن يقال لمنافق ولا كافر ولا فاسق: يا سيدي؛ للحديث، ويقال لغيرهم ذلك؛ للحديث. كذا قال، ولا أظن أحدا يجوِّز أن يقال هذا لمنافق أو كافر”.

5- من فوائد هذا الحديث:

– عدم جواز تولية المنافق والفاسق للولايات العامة؛ لأنها مظنة السيادة، والمؤمنون منهيون عن تسويد المنافق لفظا فكيف بتسويده فعلا، قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: “لا تجوز تولية أهل البدع والضلال وأهل الفسوق والفجور أمراء على الناس أو قضاة أو غيرها من الولايات العامة، فإن في تولية هؤلاء تمكينا لهم من نشر بدعتهم، وإضلال المسلمين، وصدهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”.

– إن تولى المنافق ولاية عامة لجور موليه أو لتغلبه أو غير ذلك، فلا يوقر وهو في تلك الولاية؛ لأن الولاية لا تغير حقيقة نفاقه، فالأصل في مخاطبته أن تكون كمخاطبة عامة المنافقين، إلا عند الخوف من بطشه فيراعى ذلك حسب فقه الضرورة، قال ابن علان في دليل الفالحين: “لا تقولوا للمنافق: سيد، ومثله سائر ألفاظ التعظيم، ومحل النهي ما لم يحس من تركه ضررا على نفسه أو أهله أو ماله”.

* أسأل الله أن يبصر المجاهدين خاصة والمسلمين عامة بحقيقة أعدائهم المنافقين خاصة والمجرمين عامة، والحمد لله رب العالمين.

لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية
لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية
لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية
لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية

 

لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية
لا تقولوا للمنافق سيد ||الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد الثاني والعشرون شعبان ١٤٤٢ هجرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى