قافلة الهلاك – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد السادس والثلاثون شوال ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد السادس والثلاثون شوال ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: غياث الحلبي
كان المسافرون يحرسون أمتعتهم ويوقرون بها متون رواحلهم، فهم يستقبلون سفرا بعيدا سيلتهم من أعمارهم قدرا ليس بالقليل، ولذا شغل الزاد والشراب حيزا كبيرا من ظهور الإبل.
أوشكت القوافل أن تسير وعلى رأس كل قافلة قائد ودليل خريت.
وقد أوشك قادة القوافل على السير في الطريق المحدد المعتاد الآمن القريب من المدن والقرى العامرة التي يتزودون منها بالطعام والشراب وعلف الإبل.
وبدا غريبا جدا قرار مِحْوال الْمُتَنفِّع عندما أعلن أنه عازم على عدم سلوك هذه الطريق واختار سلوك طريق صحراوية لا ماء فيها ولا شجر بقافلته التي تعد من كبريات القوافل.
حاول الأدلة ثنيه عن قراره هذا، وحذروه من مغبة تصرفه المُغْفل للعواقب والمتجاهل للعقبات، غير أنه أصر على رأيه، فقد كان شابا طموحا جريئا طماعا يريد أن يسير في الطريق الصحراوية لأنها أقرب من ذاك الطريق الآمن؛ فيوفر بعض الأجرة التي يأخذها من المسافرين ليزداد ربحه، وعندما تصل القافلة في مدة أقرب يسير ذكره في البلدان ويشار إليه بالبنان، ويقال: هذا الذي قطع الفيافي والقفار وعبر المفاوز وتجاوز الأخطار وبز بحسن قيادته القادة الكبار حتى كأنه بينهم شمس وهم أقمار.
وقطع عليه حلمه هذا قول الدليل: قد تصبر الرجال الأشداء على سلوك هذه الطريق، ولكن ليس للضعفاء من الرجال والنساء والولدان طاقة بذلك؛ فالطعام والشراب أقل من أن يكفي سفرا في صحراء لا مدن فيها، وشدة الحر لا تطاق، وأنت موردهم على مهلكة.
فأجابه: أنت دليل مهمتك الإرشاد للطرق، أما الزاد وتدبير الطعام والشراب وتقدير الحاجيات، فتلك مهمة القيادة الحكيمة، وكل شيء مدروس ومحسوب، ولا حاجة لنا بفضول الكلام فإنه يورث الخصام ويقطع حبال الود بين الكرام.
– وأعطى محوال الأمر بالمسير بعد أن أمر خطيبه أن يخطب في الناس قائلا: أيها المسافرون، أبشروا واستبشروا فإن قافلتكم وُفقت لأقرب طريق وأسرع سفر، فليهنأ التاجر بقرب بيع سلعته ونفوقها بأعلى الأسعار قبل وصول غيره من التجار، وليهنأ المسافر بقرب الوصول لأهله، فثقوا بالقيادة فهم أهل حكمة وريادة وعلم وإفادة وخبرة وسيادة..
– سارت القافلة مجدة لا تبصر في جهاتها الأربع سوى الرمال على مد البصر، وبدأ الزاد يقل والإبل تجوع، فشعر الدليل بوجود أزمة في القافلة، فاقترح أن تتجه القافلة شمالا؛ فإنه على بعد يومين مدينة عامرة فيها أسواق كثيرة والطعام فيها وفير وماؤها عذب يمير، فيشتروا الزاد ويملؤوا القرب ويتابعوا سيرهم، غير أن محوال رفض ذلك؛ فيومان ذهابا ويومان عودة للطريق وشراء الزاد، كل ذلك يقلل ربحه ويضيع ما طمع فيه من اختصار للطريق، ورجا محوال أنه إن جد السير أن يتمكنوا من الوصول قبل الهلاك، وأصر على متابعة الطريق.
– ومرت بضعة أيام ونفد جل الطعام، وأصبح نصيب الفرد من الطعام لا يتعدى حفنة منه في اليوم، وظهر الهزال على الإبل، ثم قال الدليل لمحوال: إن معنا بعيرا مريضا قد يموت فلو بادرنا بنحره وأكله، ويمكننا أن نغير الطريق قليلا فنمر بعد أربعة أيام بمدينة صغيرة نشتري منها بعيرا بدلا عنه.
فأبى محوال ذلك؛ فإن نحر البعير يقلل من ربحه المتوقع، وقال: لا ينبغي التفريط في ظهورنا، ويمكن البحث في أعشاب الصحاري عن أدوية تعالجه، ولم يلبث البعير أن مات، فأراد محوال أن ينتفع بأي شيء كي يقلل الخسارة، ففاجأ محوال الدليل بقوله: الآن طاب أكله.
فتعجب الدليل، وقال: تركته حلالا، وتريد أن تأكله حراما.
فقال محوال: نحن في مخمصة، وقد أباح الله لنا أكل الميتة.
– قد أخبرتك أن أمامنا مدينة سنصلها قبل أن تفنى أزوادنا ويمكننا أن نشتري منها ما نشاء.
– فقال محوال: من التفت حُرم الوصول، لا ينبغي لنا أن نضيع وقتنا في المرور على المدن، بل لا بد أن نستمر في طريقنا لنصل في أقرب وقت.
* بعد أيام نفد الطعام الذي صنعوه من البعير الميت وعادت المخمصة ثانية، وكثر القيل والقال بين أفراد القافلة، ولم يكن محوال يشعر بشعورهم، فهو زعيم القافلة يأكل ويشرب ما شاء متى شاء، أما الأفراد فلا يصلهم إلا ما يخصصه لهم من طعام وشراب، وهي مخصصات تقل يوما بعد يوم.
اشتد الجوع والعطش على الدليل وأفراد القافلة وفشا الهزال والمرض فيهم، وارتفعت حرارة الصحراء، وازدادت الإبل ضعفا وضعف سيرها وتباطأ مسير القافلة، فاقترح الدليل تغيير المسير إلى قرية أخرى تبعد خمسة أيام، ولكن محوال أبى ذلك وأصر على إكمال الطريق، وكعادته وقف محوال طالبا ممن في القافلة الثقة بقيادته الحكيمة، وأن التعب سيزول بمجرد وصولهم إلى مستقرهم وسيهنأون يومها بهذا الإنجاز والاختصار في الطريق..
شعر الدليل بحاجة شديدة إلى ضرب محوال على رأسه بالنعال، وحسده على صفاقة وجهه التي تضاهي جلد البقر، وصاح الدليل: لا مجال للتقدم أكثر، سنموت من الحر والعطش، لنتحول عن هذا الطريق إلى الطريق المسلوك بالناس المحفوف بالمدن والقرى، فالحفاظ على رأس المال وهو أفراد القافلة أولى من كل ربح تذكره..
غضب محوال، وقال: أنغير الطريق إلى الطريق الآخر فتضيع فائدة كثير مما اختصرناه من الطريق وتتأخر قافلتنا عن بقية القوافل؟! اسكت أيها المفتن الجاهل، لقد اقترب الفرج، ويوجد بعد مسافة قريبة مستنقع ماء به خيرات.
اندهش الدليل، وقال: أين هذا المستنقع المزعوم؟!
فأشار محوال إلى الأمام، وقال بشيء من الزهو: انظر، الماء هناك، ليس بيننا وبينه شيء.
– هذا ما تظنه ماء ليس إلا سرابا!
– يبدو أن الضعف أفقدك الثقة حتى ببصرك وبصر أفراد القافلة، هل يمكن للسراب أن يخدعنا جميعا!
– هنا انتفض الدليل، وقال: والله ما رأيت منك في رحلتنا هذه سوى الخراب، فابحث عن دليل غيري، فأنا سأغير طريقي إلى طريق أقرب قرية.
– ضحك محوال وقال: وهل تظن أن القافلة ستتأثر بغيابك؟! هل تظن أنني وضعتك معي لحاجتي لدليل؟! أنا أعرف في النجوم والجهات والبلاد، وما وضعتك معي إلا لتخفيف بعض المسؤوليات عني، فاذهب حيث أردت فإن القافلة تنفي خبثها.
– قال الدليل: ليت الأمر كان كذلك.
– ونادى محوال في المسافرين: اصبروا وصابروا وكونوا كما عهدتكم واثقين بقيادتكم التي تريد أن توصلكم إلى بر الأمان.
* انقسم الناس، وسار الدليل بقسم من القافلة جهة الطريق المعتاد المسلوك.
أما محوال فظل يتتبع السراب ويتيه في أعماق الصحراء ومن معه يتساقطون واحدا تلو آخر، حتى أطبقت الصحراء فكيها عليهم، فلم يعد يعلم قبيلا من دبير، واختلطت الاتجاهات عليه، فسُقط في يديه وصار يدور في جوف الصحراء كما يدور الحمار برحاه، حتى قطع الحر والعطش نياط قلبه وقلوب من معه، فرمى بجسده على الرمال منتظرا الموت الذي يتخطف من حوله مرددا: تقطع أَعْنَاق الرِّجَال المطامعُ!
* وسار ذكر محوال في البلدان وصار يشار إلى حاله بالبنان، ويحذر قادة القوافل من ارتكاب حماقة كحماقته، ويقال: احذروا خطل محوال، وإياكم وحاله فهي شر الأحوال، وابتعدوا عن فعاله فهي أسوأ الفعال، فقد كان قزما ورام أن يطاول الجبال، فآل حاله إلى الهلاك بين الرمال، ولم يغن عنه ما كان يترنم به من معسول الأقوال، وهكذا تكون عاقبة كل معجب بنفسه مختال، وعاقبة كل تابع مضى رغم ظهور بوادر البوار خلف أحمق سيئ الخصال.
خلق الله للحروب رجالا
ورجال لقصعة وثريد
انتهت.