حقيقة خوف الكفار من الإسلام || من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد للشيخ أبو شعيب طلحة المسير

حقيقة خوف الكفار من الإسلام[1]

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد؛

فقد كثر الكلام عن انتشار ظاهرة خوف الكفار من الإسلام، وخوف الاتجاهات العلمانية من الحكم الإسلامي، وقام بعض المسلمين بنشر خطاب دعوي، يجتزئ من الإسلام وتعاليمه ما يحاول به طمأنتهم، وإزالة شعور الخوف والقلق من نفوسهم.

وقد استخدم هؤلاء الدعاة الذين حملوا مهمة طمأنة الأعداء، أسلوب الهروب من مناقشة الجزئيات، والاكتفاء بالنظر إلى زاوية واحدة من زوايا نظرة الإسلام إلى أعدائه، ثم قاموا بتعميم هذه الزاوية؛ لتصبح كأنها رؤية شمولية للإسلام.

ولكن ما حقيقة هذا الخوف الذي يصيب أعداء الإسلام؟ وهل في دين الإسلام ما ينتج عنه ظهور شعور الخوف والفزع والقلق لدى الكافرين والمنافقين؟

ولا بد للإجابة على هذا السؤال من النظر في حقائق الأمور بعزة الإسلام، بلا موالاة للأعداء ولا مداهنة؛ وبلا كتمان للحق ولا خلط له بالباطل.

أولًا: لم يخاف الأعداء من انتشار الإسلام؟

أعداء الإسلام، الذين لم يدخلوا في دين الله جل وعلا، ولم يستسلموا لشرعه، ولم يذعنوا لحكمه، يتهافتون على الدنيا، ويحرصون على ما بأيديهم من متع باطلة، ويهلعون ويجزعون إذا فاتهم شيء مما يؤملون، وهم يرون الإسلام عائقًا يصدهم عن كل ذلك، فيخافون من انتشار دعوته، ويحذرونه حذرًا شديدًا.

فهذا فرعون الطاغية، يصيبه الخوف من موسى عليه السلام ودعوته، إنه يخاف أن يقضي موسى عليه السلام على عبادة قوم فرعون له واستخفافه بهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾[2].

وهاهي ملكة سبأ خافت أن تنقلب حالها من العزة إلى الذلة إذا دخل سليمان عليه السلام بلدها فاتحًا، قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[3]، وقد توعدهم سليمان عليه السلام بالذلة والصغار إن لم يستجيبوا لنداء الحق، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[4].

وهاهم المشركون يخافون من المسلمين أن يصدوهم عن آلهتهم، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾[5]، ويخافون أن تذهب سيادتهم؛ فيزعمون أن الأنبياء ما أتوا إلا ليتفضلوا عليهم، قال تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾[6].

وكذلك عبيد الدنيا يضيقون صدرًا بما يحول بينهم وبين نزواتهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾[7].

إن أعداء الإسلام يخافون إذا حكمهم الإسلام وهم على كفرهم ونفاقهم، أن يمنعهم من المحرمات التي اعتادوا اقترافها؛ سواء كانت تلك المحرمات تتعلق بالمأكل، أو المشرب، أو الملبس، أو العادات الاجتماعية، أو المعاملات التجارية، أو الأنشطة الفكرية والثقافية والسياسية.

ولنضرب مثلًا على ذلك، إن أعداء الإسلام يعلمون أن الإسلام يفرق بين الناس على أساس الإيمان والعمل الصالح؛ فليس المسلم كالكافر، ولا التقي كالفاجر، وهذه التفرقة لها أثرها في التعامل، والحياة المعيشية، والعلاقات الاجتماعية، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[8]؛ لذا فهم يخافون إذا انتشر الإسلام بينهم أن يفرق الإسلام شملهم، ويمزق وحدتهم وجماعتهم، تمامًا كما فرق الإسلام من قبل بين مسلمي مكة وكفارها، فتعلو رابطة الإسلام على روابط: النسب، والوطن، والجنس، واللغة..، قال ابن القيم: “والدين كله فرق، وكتاب الله فرقان، ومحمد فرق بين الناس، ومن اتقى الله جعل له فرقانًا…، فالهدى كله فرقان، والضلال أصله الجمع كما جمع المشركون بين عبادة الله وعبادة الأوثان”[9].

ثم إذا اشتد ساعد المسلمين فإن أعداء الإسلام يعلمون أن المسلمين سيخيرونهم بين الإسلام، والجزية، والحرب، والكفار يعلمون يقينًا أن الجزية ليست مجرد مساهمة مالية في الدولة كما يحاول البعض خداعهم؛ بل هي نوع صغار مضروب على أعناقهم بسبب كفرهم، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[10]، قال ابن جرير الطبري: “معناه وهم أذلاء مقهورون”[11]، وبذلك فأعداء الإسلام يحسبون عزتهم وسعادتهم في ما عندهم من الباطل، ويرون أن هذه العزة والسعادة المزعومة مهددة إذا انتشر الإسلام بينهم؛ فهم يبذلون جهدهم في تخويف أقوامهم من انتشار الإسلام، ويعملون في الصد عن سبيل الله جل وعلا.

قال سيد قطب: “﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ[12] فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض، وإن كثيرًا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يُقدَّم إليهم في صورة مقنعة، وهذا وهم، إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل”[13].

ثانيًا: هل يمكن إزالة إحساس الأعداء بالخوف من الإسلام ؟

إن خوف أعداء الإسلام من المسلمين شعور يفشو عند من أعرض عن الحق واستمر على كفره، وهو نوع من أنواع العقاب الذي ينزله الله جل وعلا على الكافرين الظالمين، وهو نعمة مَنَّ الله جل وعلا بها على المؤمنين الصادقين؛ قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[14]، وقال جل وعلا: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾[15]، فبين سبحانه وتعالى أن إشراكهم سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم.

وقد أمرنا الله جل وعلا بأخذ الأسباب التي تخيف وترهب جميع الأعداء الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، قال الله جل وعلا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾[16]، فبين سبحانه وتعالى أن من مقاصد إعداد العدة إرهاب أعداء الإسلام الذين نعرفهم وأعداء الإسلام الذين لا نعرفهم، وقد حاول بعض المفسرين تعداد هؤلاء الأعداء الذين نُرهبهم بإعداد العدة ونحن لا نعلمهم، حتى ذكر بعضهم المنافقين الذين يعيشون بين المسلمين، بل وذكر بعض المفسرين أننا بذلك نرهب حتى كفار الجن[17].

بل إن عدم خوف الكفار من بعض المسلمين يدل غالبًا على تفريط هؤلاء المسلمين، وتقصيرهم، وابتعادهم كثيرًا عن منهج الله جل وعلا، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت»[18].

ثالثًا: ما الحكمة من وجود هذا الخوف في قلوب أعداء الإسلام؟

من الحكم المترتبة على شعور أعداء الإسلام بالخوف من الإسلام ظهور فضل الله على أمة الإسلام وإكرامه لهم وإعزازهم به، قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[19]، وقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[20]، قال السعدي: “فهُم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم، ورفقهم، ورأفتهم، ورحمتهم بهم، وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم. وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله، -أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم”[21].

وكذلك من الحكم المترتبة على شعور أعداء الإسلام بالخوف من الإسلام، أن هذا الخوف نوع من أنواع رحمة الله جل وعلا بهم؛ حيث إن الشعور بالأمن مع بقائهم على كفرهم قد يصدهم عن الإيمان، فيصيبهم العذاب الأليم الخالد في نار جهنم، وقد بين الله جل وعلا أن من رحمته بالناس أنه لم يخص الكافرين بنعم الدنيا ولذاتها، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾[22]، قال الألوسي: “حقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل…، لولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه… الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر”[23].

إن هذا الخوف الذي يصيب أعداء الإسلام قد يدفعهم إلى التفكر في سبب خوفهم وفزعهم، طارحين رداء الكبر الذي يغطي أبصارهم، فيهدي الله جل وعلا من شاء منهم لصراطه المستقيم، وللأمن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[24].

رابعًا: ما الموقف من قضية طمأنة أعداء الإسلام؟

إن من أساليب العزة الإسلامية أن نواجه تخوف أعداء الإسلام على ما استساغوه من متع الدنيا إذا انتشر الإسلام، بأن نعلم أن من منهج الإسلام في دعوة أعدائه أن يزيد من إثارة مشاعر الخوف الشديد في قلوبهم؛ بأن يكثر مِن ذكر ما ينتظر الكافرين يوم القيامة من عذاب الله جل وعلا، وانتقامه منهم، وتنكيله بهم، وأن يذكر لهم ألوان العذاب التي ستُصب على القوم المجرمين، في يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا، يبشر من أطاعه بالسعادة في الدنيا والآخرة، وينذر من عصاه بالشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة جدًّا مكية ومدنية، تخوف الكافرين بذكر أهوال جهنم وما ينتظرهم فيها من سوء المصير.

ورغم أن الكافر ليس مؤمنًا بالإسلام، إلا أن هذا التخويف بعذاب جهنم، عندما يصدر من دعوة الحق، فإن له أثرًا كبيرًا ووقعًا عظيمًا في النفس الإنسانية، ذلك أنه يفجر شكوك الكافر فيما عنده من أباطيل، وما توارثه من خرافات وأكاذيب، ويدفعه هذا التخويف الشديد للتأمل في هذا الدين الذي يتوعده إن هو ظل معرضًا عنه، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾[25].

وتخويف الكفار بنار جهنم يدفع بعضهم للإسلام؛ فينجو من الهلاك، ويتحلى بتاج العزة الإسلامية، ويتبقى فريق منهم، تبلدت مشاعرهم وأحاسيسهم، فلم يلتفتوا لهذا الوعيد، ولم يعبأوا به، وأصروا على كفرهم وباطلهم، فكثر بعدم استجابتهم لهذا التخويف طغيانهم، وازدادوا رجسًا إلى رجسهم، وباءوا بغضب على غضب، قال تعالى: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾[26].

وإن مما يؤسف له أن بعض المهزومين نفسيًّا انبرى يرسل للأعداء رسائل تلو رسائل، فحواها محاولة التبرؤ من كثير من شعائر الإسلام؛ ظنًّا منه أنه بذلك يسدي الجميل للإسلام أو للمسلمين، ووجد بغيته في الاختصار المخل، والتلاعب اللفظي، وفوضى المصطلحات…، إلى غير ذلك من أمور لا يجمعها سوى البعد عن اعتزاز المسلم أو المسارعة في رضا الأعداء.

– ماذا يقصد من ينادون باشتراكية الإسلام، وديمقراطية الإسلام، ورأسمالية الإسلام؟

– ماذا يقصد من يعلنون أنهم لن يطبقوا الحدود في العقوبات، ولن يمنعوا الربا، ولن يفرضوا الجزية؟

– ماذا يقصد من يطلقون أن الإسلام دين حرية العقيدة، والمساواة بين البشر، والمواطنة بين كل الطوائف؟

– ماذا يقصد من يروجون لثقافة التعايش السلمي، وحوار الأديان، والتسامح مع الآخر؟

– ماذا يقصد هؤلاء وغيرهم ممن يختارون التعمية في خطابهم؟

ألا يخشون أن يكونوا من الذين يلوون ألسنتهم بالحديث عن الإسلام وشرعه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.

والعجب أنهم إذا عوتبوا، يحاولون تبرير فعلهم بالحديث عن: العجز والضعف، أو المداراة والتقية، أو الحيلة والخدعة، أو الذكاء والحكمة، أو المصلحة والمنفعة…، ويجمعون المبررات التي يظنون أنها تنفعهم في تقديم خطاب يتباهون به أمام الكفرة والفجرة، من أنهم قد اقتربوا من مبادئهم ونُظمهم، وشاركوهم حضارتهم ومدنيتهم، وصاغوا فلسفة تضاهي فلسفتهم.

 

كلا أيها القوم، إن الإسلام شامخ جليل، والمؤمن عليٌّ عزيز، ولا مجال للمذلة أمام الأعداء ولا الخنوع، وستظل العداوة والبغضاء بيننا وبينهم بادية ظاهرة، كما قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾[27]، نعم، ستظل العداوة والبغضاء بين المسلمين والكافرين بادية أبدًا على سبيل الدوام والاستمرار، في “مفاصلة حاسمة جازمة، لا تستبقي شيئًا من الوشائج والأواصر، بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان”[28].

نعم، هناك بعض المخاوف المبنية على أكاذيب وافتراءات، أو تشويهات وتحريفات، يحاول الأعداء إلصاقها بالإسلام، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون﴾[29].

وليس هناك ما يمنع من بيان زيف هذه الافتراءات أو التحريفات، التي أدت إلى مزيد من الخوف، ولكن لا بد أن يكون هذا البيان متسقًا مع إسلام المؤمن وجهه لله جل وعلا، واستمساكه بالشرع الحكيم.

ويدل على ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها، في قصة هجرة الحبشة، وقدوم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة إلى النجاشي يسألانه أن يرد المسلمين إلى قريش، قالت رضي الله عنها: (قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم استأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم، فقال له جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود)[30].

هكذا فليكن دعاة الإسلام، وهكذا فلتكن دعوتهم ومواجهتهم للأباطيل، قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾[31].

 

([1]) كتبت سنة 1433هـ.

[2]– غافر: 26.

[3]– النمل: 34.

[4]– النمل: 36- 37.

[5]– الأحقاف: 22.

[6]– المؤمنون: 24.

[7]– المعارج: 19- 22.

[8]– الجاثية: 21.

[9] – كتاب الروح، لابن القيم.

[10]– التوبة: 29.

[11]– تفسير الطبري، تفسير سورة التوبة.

[12]– البقرة: 145.

[13]– تفسير في ظلال القرآن، تفسير سورة البقرة.

[14]– النحل: 112.

[15]– آل عمران: 151.

[16]– الأنفال: 60.

[17]– ينظر في ذلك تفسير الطبري وابن كثير والألوسي، لسورة الأنفال.

[18] – رواه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام.

[19]– آل عمران: 139.

[20]– المائدة: 54.

[21]– تفسير السعدي، تفسير سورة المائدة.

[22]– الزخرف: 33.

[23]– تفسير الألوسي، تفسير سورة الزخرف.

[24]– الأنعام: 82.

[25]– الزمر: 15- 16.

[26]– الإسراء: 60.

[27]– الممتحنة: 4.

[28]– من تفسير الظلال للأستاذ سيد قطب، تفسير سورة الممتحنة، بتصرف يسير.

[29]– الأنعام: 112- 113.

[30]– رواه أحمد في مسنده، مسند أهل البيت.

[31]– الأنبياء: 18.

كتبها

أبو شعيب طلحة محمد المسير

لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد  bdf اضغط هنا 

للقرأة من الموقع تابع

مائة مقالة في الحركة والجهاد الشيخ أبو شعيب طلحة المسير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى