بل هم قوم طاغون – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٩ – ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

الشيخ: محمد سمير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.. وبعد؛

فإن الطغيان مرض يعتري الطاغية فيجعل تصرفاته تتسم بالطيش والحمق وسوء التقدير، كما تسيطر على عقله الهلاوس والشكوك، ولا يزال هذا المرض يشتد حتى يودي بصاحبه إلى الجنون.

وبما أن الطغيان مرض فلا بد أن تتشابه أفعال الطغاة على اختلاف بلدانهم وقومياتهم وأعراقهم وألوانهم وأزمانهم.

وقد طالعت قبل أيام كتابا لستيفن غراهام يتحدث فيه عن سيرة طاغية روسيا إيفان الرهيب الذي حكم روسيا من عام 1533م إلى وفاته عام 1584، وقد عجبت للتشابه الشديد بين سياسته وأفعاله وبين سياسة وأفعال الطغاة المجرمين الجاثمين على صدور الأمة منذ عقود، وهأنذا أسوق لك مقتطفات من هذا الكتاب مع بعض التعليقات عليها، وغرضي من ذلك أمران؛ الأول: بيان الأصول التي تجمع بين الطغاة والمستبدين، والثاني: إطلاعك على أحداث حقبة من التاريخ الروسي الإجرامي.

* ولنبدأ باستعراض سريع لحياة إيفان، منذ ولادته إلى أن تحول إلى إيفان الرهيب:

– ولد عام 1530 م، وبعد ثلاثة أعوام توفي والده، وكان إيفان هو الوريث للعرش، فظل تحت الوصاية إلى الثالثة عشرة من عمره؛ حيث تربع على العرش وأعلن عن نفسه قيصرا بعد عدة سنوات، وبدأت سياسة الظلم والبطش الصغرى، والتي انتهت بعد حريق موسكو الأول في مدة حكمه، وقد اجتمعت ثلاثة أسباب رئيسة لإنهاء حقبة ظلمه الأول؛ وهي: زواجه من أناستاسيا، ورجل الدين الأول في موسكو، والحريق الذي اعتبره إيفان عقوبة من الله فأعلن توبته من مظالمه وسياسته الرعناء، واستمرت هذه التوبة ثلاثة عشر عاما، وانتهت بوفاة زوجته أناستاسيا والتي كانت وفاتها صدمة كبيرة جدا، فعاد شرا مما كان بكثير، وبدأت المظالم الرهيبة التي استمرت حتى وفاته.

ويعنينا هنا أن نذكر بعض الصفات النفسية لإيفان، وهي غالبا ما تكون مشتركة بين الطغاة:

 

– وأول ذلك الجبن الهالع والخوف الشديد، وهذا ما سيغدو ورقة رابحة بيد حماة القيصر يستغلونها لتسويغ بل تبرير كل جريمة يرتكبونها مهما كانت فظيعة “فالقيصر كان خائفا من تلك المظاهرة التي جرت أمام القصر لأن هذا الجمهور كان بإمكانه أن يجعل من جسده قطعا ونتفا، والجبناء يرتجفون في العادة كورقة في مهب الريح إذا تعرضوا لجزء من مائة من الآلام التي يفرضونها على الآخرين، وفي كل طبيعة خيرة يوجد في العادة عنصر يسمى الجرأة، وهذا العنصر كان مفقودا لدى إيفان” [ص 51 – 52].

ومن جبن إيفان أنه يريد أن يظهر بمظهر البطل الباسل، ولذلك كان يستهلك كثيرا من قوى الجيش من أجل حمايته في المعارك “في خلال هذه الحرب [حرب قازان] لم يطلق إيفان طلقة واحدة من بندقيته ولا استل سيفا ولا وقف على رأس جيوشه لقيادتها في الهجمات، ولا يبدو أن شخصه الملكي تعرض قط لأي نوع من الأخطار، وكان يلتف حوله حرس وافر العدد من الرجال المسلحين، حتى إن نصف الجيش كان أحيانا يتفرغ فقط لحمايته، فلم تكن فيه إذن صورة البطل التي يقدمونها لنا” [ص92].

– ونجد في صفاته بخلا شديدا وحرصا على الأموال، حتى إن ذلك يدفعه لاحقا للاستيلاء على كنوز الكنائس ومدخراتها التي طالما زعم أنه يقاتل من أجلها وفي سبيلها.

– ومن صفاته المتأصلة فيه الغدر والنكث بالعهود واللؤم وعدم حفظ المودة، وعدم تقدير الخدمات التي قدمها كبار القادة والنبلاء لقيصر ودولته “وكان إيفان قد خسر بعض أفاضل قادته من أمثال دانيال أرداتشيف المتوفى والأمير ميشيل فوروتنسكي الذي نفي مع عائلته..، والأمير ديمتري كورلياتيف الذي قتل مع أفراد عائلته..، وكانت تلك خسارة كبيرة للجيش” [ص157].

* بدأ الطاغية طغيانه بتصرفات صبيانية الغرض منها على تفاهتها إعلام الأمراء والنبلاء أن إيفان لا يرد له حكم ولا يناقش في قرار، ومن ذلك أنه أراد إلزام بعض الأمراء بارتداء قناع مضحك، فرفض ذلك الأمير قائلا: “يستطيع الملك أن يجعل من نفسه مهرجا، أما أنا البويار النبيل وعضو المجلس فلا أريد أن أكون الأحمق الغبي، هكذا قال الأمير، وغضب إيفان غضبا شديدا وطرده من القصر، وبعد بضعة أيام أرسل من اغتاله [ص150].

هذه البداية إذن؛ قتل من يعترض على أفعاله الصبيانية، وحتى يكرس فكرة الحاكم المطلق الذي لا يناقش ولا يعارض فإنه تسلح دائما بعصا طويلة من الخشب تنتهي بسن من الفولاذ، كانت عصا ضخمة طولها 120 سم ذات حربة ثقيلة ومقبض حسن النقش، وقد اعتاد القيصر أن يضرب الناس بهذه الحربة فيؤدي بهم الحال أحيانا إلى الموت، ولم يكن أحد يدري مسبقا ما إذا كان القيصر غاضبا أو حسن المزاج، وقد بدا بأن يكون ذا نزوات إجرامية، وبدأ الخوف الأكبر منه في عام 1563 وهو التاريخ الذي بدؤوا يطلقون عليه فيه لقب الرهيب.

وهكذا ومع ازدياد رقعة الإجرام فإنه لا يزال محصورا بالقريبين منه وفي حاشيته، وهنا ينشق أحد الأمراء عن إيفان ويلتحق بأعدائه اللتوانيين ويرسل رسالة إلى إيفان يلومه فيها على سياسته العبثية وقتله الأمراء وإضاعته هيبة الدولة، وبدل أن يتعظ إيفان يرد على الرسالة برد غريب في الوقاحة حيث يقول: “أيها الشقي لماذا تهلك نفسك بالخيانة؟ لماذا تنقذ جسدك الفاني بالفرار؟ إذا كنت صادقا وفاضلا فلماذا أردت أن تجتنب الموت الذي يمكن ليدي أن تقدماه لك وترفض تاج الشهداء؟!.

وهكذا تفكير الطغاة: إذا كنت صادقا فتعال لنا لنقتلك أو نسجنك أو نعذبك وإلا فأنت خائن عميل.

ومع أن إيفان يسرف في الظلم والعدوان غير أن ذلك لا يشفي حقده فهو يريد أن يتحول إلى إعصار مدمر لا يبقي ولا يذر، يريد أن يستمتع بالذبح والتقطيع والحرق، غير أن هناك عقبة في سبيله وهو الحرمان الكنسي الذي كان وقتها يحسب له ألف حساب، لذلك يجب أن تطلق الكنيسة يده، ولتحقيق ذلك يرسل القيصر إلى رجال الدين رسالة يزعم فيها أنه تخلى عن الحكم “بما أنني عاجز عن تحمل الخيانات التي تحيط بي فقد هجرت الدولة وذهبت حيث يقود الله خطاي” [ص169].

وإيفان على علم بأنه لن يسمح له بالاستقالة [كما حصل مع استقالة الطاغية عبد الناصر] إلا أنه يريد الحصول على الصلاحيات المطلقة ليقتل ما شاء دون حسيب، وبعد توسل النبلاء والحاشية لديه يقبل بالعودة قائلا: “ومع ذلك فإنني بدافع من محبتي للأب أثناسيوس ولكم وللأساقفة والمطارنة الحجاج أوافق على العودة إلى العرش ولكن على شرط أن أكون حرا في إعدام الخونة بمحض إرادتي وأن أعاقب -رغم استيائي- حتى بعقوبة الموت والسجن ومصادرة الأملاك دون أن أتعرض لحرمان الكنيسة أو نواياها السيئة” [ص172].

ووافق الحمقى على ذلك لتدخل روسيا عصرا من أسوأ العصور التي عاشتها “واستقبل المستعطفون هذا الكلام بدموع الفرح: افعل بنا ما تشاء ولكن عد إلينا” [ص172].

ومع ازدياد الظلم يزداد خوف القيصر من الانتقام والاغتيال، فلا بد إذا من إنشاء قوة مهمتها حماية القصر، ولا بد أن تكون طاعتها له عمياء، ولا بد أن تكون فوق المحاكمة والقانون، فأنشأ قيصر قوة سماها “أوبريتشينا” “وقد خصصت بعض الشوارع في موسكو لسكنى أفراد الأوبريتشينا، بينما طلب من سكان هذه الشوارع أن يفتشوا لهم عن مأوى في شوارع أخرى..، وكانت الأوبريتشينا أشبه بنظام جزويتي فاسد تضمن له الكنيسة سلفا عفو الله عن كل ما يرتكبه من جرائم باسم القيم، ويضع ضميره تحت تصرف إيفان” [ص174].

وهذه القوة الجديدة يجب أن تكون من سفلة الناس الذين لا يتورعون عن فعل أي شيء أو ارتكاب أي جريمة “وتم إنشاء قسم خاص بهم، فكان ينبغي ألا يعرفوا أحدا لا أبا ولا أما إلا القيصر..، وكان هؤلاء الحرس الأوبريتشينا هم الأبناء الصغار في عائلاتهم، فكانوا فقراء، ولكنهم الآن وفي سحبة قلم وجدوا أنفسهم نسبيا أغنياء، وبعد أن تقلدوا السلطة التي أوكلت إليهم أخذوا فورا في اضطهاد جيرانهم كي يجعلوا منازلهم وممتلكاتهم لهم؛ لأنهم في الحقيقة فوق القانون، ولم يكن عليهم أن يقدموا حسابا عن أعمالهم، فكانوا يستطيعون فرض الغرامات على الجنح والجرائم ويجلدون علنا أي إنسان حتى يدفع ما يطلبون” [ص176].

“هذا الحرس الإمبراطوري المؤلف من ستة آلاف من رجال العصابات أرهب الشعب كانوا كلاب صيد للقيصر، وبقية شعبه كانوا الطرائد” [ص177].

وإذا تزاوج الجبن الشديد مع الظلم الفاحش ولد بينهما الشك الذي لا يزال يشتد حتى يشب فإذا هو جنون “وكانت ريبته تزداد أيضا وتملكه في موسكو جنون من الإرهاب، ولم يكن يستطيع التخلص منه إلا أن يقوم بعمل عنيف، وخيل إليه أنه سمع ناقوس موته في الكريملين، ثم بدد كل أمل في إزالة مخاوفه شهاب ساطع عبر السماء فتملكه قلق سوداوي؛ لأنه لم يكن ثمة شخص يؤمن بالنجوم أكثر منه، ولم يكن بيته الجديد في موسكو على الرغم من حصانته وحسن حراسته يكفي لإعطائه الشعور بالأمان، فخلف كل جدار في العاصمة كان يتربص قاتل، هذا على الأقل ما كان يعتقده، ومن العجيب أن أحدا لم يفكر قط باغتياله ذلك لأن الروس كانوا قرويين بطبعهم، وكانوا عاجزين بشكل يستدر الشفقة عن قتل أولئك الذين يكيدون لهم الاضطهاد والعذاب.

لقد كان إيفان المحارب القاسي الشديد في أمان أكبر مما يتمتع به حاكم مثالي؛ ذلك لأن الروس اعتادوا على أن يحكمهم طاغية ظالم [ص177].

– ومن أجل خداع الشعب فلا بأس بإظهار بعض الشعائر الدينية والمبالغة فيها بشكل يستدر تعاطف البلهاء والمغفلين من الشعب “وتستمر الخدمة الدينية حتى الساعة السادسة أو السابعة مساء، كان القيصر يسجد في خلالها معظم الوقت حتى ليصل به الورع إلى إيذاء جبينه وخروج الدم منه لشدة ما يفركه على حجارة الكنيسة” [ص178].

وهذه العبادة التي غرضها الرياء لا تمنعه أن يذهب كل يوم بعد الظهر يزور السجون ويأمر بتعذيب الموقوفين ليمتع نفسه فيما بقي من النهار.

– وكعادة الطغاة عندما تنتشر أخبار جرائمه وجرائم القوة المخصصة لقمع الشعب ونشر الرعب فإنه يلجأ إلى الكذب وينفي ما يسميه الشائعات المغرضة التي يريد أن تنال من هيبة الدولة وتشوه صورتها.

“وقد وجه سيجسموند أوغست بسؤاله للسفير الروسي في فارصوفيا: ما هي الأوبريتشينا ؟ وأجاب هذا: “ليس من وجود لذلك”، ومع ذلك فإن ملك بولونيا كان مقتنعا بعكس ذلك لأن اللاجئين إلى بولونيا كانوا يصلون كل يوم هربا من طغيان الأوبريتشينا ويضعون أنفسهم تحت حمايته” [ص179].

ومع هذه الكذبة الوقحة تستمر شبيحة إيفان في جرائمها تحت سمع القانون والحكومة وبصرها، “كانت الحكومة الفاعلة مشلولة في البلاد والأوبريتشيا وحدها هي من يصنع القانون، ولم يكن في الإمكان التظلم أو كسب أي دعوى تقام ضدها” [ص179].

ومع وحشية شبيحة إيفان هؤلاء إلا أنه قد يصدر من بعضهم أحيانا تعاطف مع بعض الضحايا وهذا يعني أن هناك جزءا ولو ضئيلا جدا من إنسانيتهم لم يمسخ بشكل كامل، وهذا ما لا يروق للطاغية، ولذا يجب أن يلقى هؤلاء أشد العقوبات ليكونوا عبرة لغيرهم “وقتل رجال آخرون لإيفون مع نسائهم وأولادهم ونهبت الأوبريتشينا منازلهم وقراهم ودمرت حظائرهم وأسماكهم في الأنهار والبحيرات وبلغ بها الأمر أن قتلت كلابهم وقططهم أيضا، وقتل عدد كبير من أبناء الشعب حتى إنهم لم يكونوا يوفرون الأطفال في المهد، ويقال إن رجلين ممن أرسلوهم لقتل إحدى العائلات انفطر قلباهما وهما ينظران إلى طفل صغير يبتسم لهما في المهد، فحملاه إلى إيفان الذي قام بطبع قبلة على وجنته ثم رمى به من النافذة آمرا أن يسلموه للدببة، أما الجلادان اللذان تركا نفسيهما عرضة للإشفاق على الطفل فقد قتلا بحد السيف [ص188].

– وطمعا في التقرب من القيصر ونيل الحظوة عنده يكيد شبيحة إيفان لبعضهم مستغلين جبن إيفان وهلعه وشكوكه؛ فتصل العمليات الوحشية إلى الشبيحة أنفسهم “فقد شهد شخص اسمه فيدور بأن الأمير فيازيمسكي كان قد أخطر بعض سكان نوفغورود بأن عليهم أن يهربوا من غضب القيصر، وكان ذلك كافيا لجعل أقرب محظيي القيصر منه في موضع الاتهام بالخيانة، وقرر إيفان إعدامه، ولكنه بحسب عادته أرسل يستدعيه وكان له معه حديث ودي حول قضايا الدولة، دون أن يشير بأي تلميح إلى شكوكه أو نواياه، ثم خرج فيازيمسكي مع كل مظاهر المحبة الحارة والثقة، ولكنه عندما وصل إلى بيته شاهد أن معظم أفراد بيته قد ذبحوا، واقتصر فيازيمسكي على هز كتفيه لأنه كان هو نفسه قاسيا بدون قلب، كان قد ظاهر إيفان واشترك في كل مجازره فهو يستطيع أن يتحمل بكل طيب خاطر قتل أفضل الخدم لديه، ورباطة جأشه في هذا الظرف -كما خطر له- إنما هي برهان على ولائه الثابت لسيده، ولكنه كان مخدوعا، ففي المساء نفسه كانت نهايته الرهيبة [ص207].

– ومع مرور الوقت تصبح المجازر هدفا بحد ذاتها وتغدو رؤية الأجساد تمزق وسماع صراخ المعذبين متعة محببة لا يستغنى عنها ولا يستطاع التخلي عنها، “كانت قسوته تغذي نفسها بنفسها حتى أصبحت سرطانا متوحشا، وفي استغراق القيصر العقلي لم يكن يوجد أي بصيص للشفقة أو العطف الإنساني، وفي غرف التعذيب وزنزاناته كان ثلاثمائة من الأشخاص يعذبون ويمزقون ويحرقون وتبتر أعضاؤهم على أن يحتفظ بهم على قيد الحياة [ص208].

وبما أن إيفان لم يجد إلا إذعانا من الشعب لجرائمه ومجازره وبطشه فلا حرج الآن أن يفاخر إيفان بأشنع جرائمه أمام عينهم وعلى سمعهم وبصرهم حتى يقضي على آخر ذرة عزة أو رجولة قد تكون كامنة في صدور بعضهم، فلتكن حفلات التعذيب والإجرام علنية، بل يجبر الشعب على حضورها ومشاهدتها.

“وفي الساحة العامة بين دكاكين كيتابي غورد نصبت آلات جهنمية كثيرة منها غلاية ضخمة مليئة بالمياه ومعلقة فوق كومة من حطب، ومقلاة ذات سعة كبيرة، وأسلاك متحركة صلبة تستطيع أن تقسم الجسد إلى نصفين، وأقفاص فيها دبب غاضبة، ومشانق، وعندما رأى أصحاب الدكاكين في كيتابي غورد آلات التعذيب هذه هربوا واختبؤوا وراء مكاتبهم تاركين بضائعهم وصناديقهم المليئة بالأموال دون حراسة..، كان “القيصر” يحتاج إلى متفرجين؛ لذلك أمر بإيقاف التنفيذ حتى يجوب أفراد حرسه المدينة ويأتوا بعدد من الناس لحضور الاحتفال..، وهكذا انتهى الأمر بمسرح الموت هذا أن امتلأ بالرجال والنساء المرتجفين ليكونوا متفرجين بالإرغام، وقد بلغ بهم الأمر من أجل تحقيق ذلك أن غزوا سقوف المنازل والمناطق الأكثر ارتفاعا منها للتفتيش عن المختبئين من الناس” [ص208 ، 209].

– ويزداد سعار الإجرام عند القيصر حتى يباشر بنفسه أفعال سفلة التشبيح وأراذل المجرمين، “وبعد هذا الاحتفال ذهب الأب “أي القيصر” والابن إلى بيت إيفان فيسكوفاتي “أحد ضحايا حفلة التعذيب” فاستوليا على كل ما فيه من كنوز، واغتصب القيصر أرملته البائسة واستولى ابنه على ابنته البكر، وكان هذا المشهد هو المشهد العائلي لأعمال التعذيب والقتل أن يغزو إيفان ووريثه منزل السجين الرئيسي ويغتصبا من فيه من نساء، وتكفلت الأوبريتشينا ببيوت السجناء الأقل قيمة، وتجاوزت الوحشية الجنسية مجرد الاغتصاب، فكلمة الاغتصاب غدت هنا مجرد تلميح بالنظر لما حدث لبعض النساء [ص210].

– وإن كان لا بد من خاتمة لهذا القيصر الطاغية فلن تكون سوى الجنون والشك المطلق الذي لا يستثنى منه أحد حتى أقرب الناس إليه بل حتى ابنه الذي سيغدو ضحية جنون أبيه.

“كان “القيصر” متأثرا أشد التأثر بما سببه لروسيا من هزائم تستحق الرثاء، كان يعرف ما كان يدور على لسان القوم من دمدمات وأن الكثيرين يعتبرونه جبانا، بل إن بعضهم كان يتساءل أنه طالما كان القيصر شيخا على إدارة شؤون الحملة فلماذا لم يرسل ابنه ليرتفع من جديد شرف روسيا وسمعتها في ميدان النزال، وسأل إيفان الشاب “أباه القيصر”: لماذا لا تتركني أقود جيشنا وأستعيد ما فقدناه، وكان السؤال بغيضا، يقود جيشا، وينتصر، ويعود ويضع نفسه على رأس المستائين ويغتال أباه دون شك أو يجبره على التنازل عن العرش، وجعل الغضب والريبة الدم يصعد إلى عيني الشيخ فرفع عصاه المشؤومة وضرب بها ولي العهد عدة مرات ثم وجه إليه ضربات وحشية على رأسه من طبرتها الثقيلة..، سقط ولي العهد، ووقف القيصر أمامه وعصاه الدامية في يده مخبولا مما فعل، وكان ندمه سريعا كغضبه، وانحنى ليحمل ابنه المسكين والألم يجتاح ثناياه وهو يصرخ: لقد قتلت ابني لقد قتلت ابني..، وأخيرا حاول أن يوقف النزيف واضعا إحدى يديه على الجرح العميق دون أن يتمكن من تحقيق ذلك” [ص262].

وبالطبع هلك ولي العهد وانهار قيصر “وأقيمت له جنازة حافلة وكان إيفان يقتلع شعر رأسه وينتحب مظهرا من الألم ما لم يظهره منذ موت أناستاسيا، ولكن بعكس ما جرى يومذاك فإنه لم يقفز هذه المرة من الحداد إلى الفجور لأن انهياره كان كاملا” [ص263].

ولم يلبث إيفان إلا قليلا حتى هلك وقد أحرق الحزن قلبه ووقع فريسة للهموم والغموم والأوهام.

وبعد؛ فإنك واجد في هذا الاستعراض السريع لطغيان إيفان تقاطعا بين تصرفاته وتصرفات الطغاة شرقا وغربا السالفين والحاضرين، وما ذلك إلا لأن الطغيان مرض له الأعراض نفسها والآثار نفسها، أراح الله الأمة من الطغاة أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى