جريمة خذلان المستضعفين || الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن آهات المسلمين وأنات المستضعفين تقض مضاجع الصالحين وتقطع نياط قلوبهم الحية، فيبذلون جهدهم في نصرتهم والدفاع عنهم حتى يعذروا أمام الله جل وعلا، وعلى الجانب الآخر فإن أصحاب القلوب المريضة لا يحركون ساكنا، وأولئك هم الخاذلون المخذولون في الدنيا والآخرة.

 

ولأن الخذلان من أهم أسباب ضعف الأمة وهزيمتها، فهذا تبيان لخطر جريمة الخذلان:

– تعريف الخذلان:

الخذلان لغة “ترك الإعانة والنصرة” [لسان العرب]..

والمعنى الاصطلاحي قريب من المعنى اللغوي، قال النووي في شرح مسلم: “الخذل ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي”.

وقال الطوفي في شرح الأربعين: “«ولا يخذله»، أي: لا يترك نصرته الجائزة مع القدرة عند الحاجة”.

– النهي عن خذلان المسلم:

نصرة المسلم مشروعة وخذلانه منهي عنه، وهذا حق من حقوق الأخوة الإيمانية ورابط من روابط الأمة الإسلامية، قال تعالى: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال جل وعلا: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)، وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» وفي رواية: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».

وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: «تحجزه، أو تمنعه، من الظلم، فإن ذلك نصره».

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم: يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».

ويرِد في هذا الموضع رواية ضعفها بعض العلماء وإن كان معناها صحيح، وهي: «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته».

وليعلم الخاذل للمسلمين أنه مستن بصفة من صفات الشياطين وهي الخذلان، كما قال تعالى: (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا).

– حكم خذلان المسلم:

إن أطلقت كلمة الخذلان فإنها تنصرف عادة للخذلان المطلق الأتم في ضروريات المسلم المتعلقة بدينه ودمه وعرضه وماله وما شابه ذلك، لذا فقد نص بعض العلماء على أن خذلان المسلم من الكبائر، قال الهيتمي في الفتح المبين: “الخذلان محرمٌ شديد التحريم، دنيويًا كان مثل أن يقدر على دفع عدوٍّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه، أو دينيًا مثل أن يقدر على نصحه عن غيِّه بنحو وعظٍ فيترك”. وقال الصنعاني في التنوير: “خذلان المؤمن مع القدرة من الكبائر”.

فخذلان المسلم منهي عنه، ويمكن معرفة حكم الخذلان بمعرفة أثره؛ فإن أدى الخذلان لكبيرة فهو كبيرة، وإن أدى لصغيرة فهو صغيرة، وإن أدى لمكروه فهو مكروه. فكلما كان الخذلان أتم كان جريمة أكبر، فخذلان من يقتله الكفار ويستبيحون دمه وعرضه وماله مع تمام القدرة أكبر من خذلان من اعتُدي عليه بضربة أو كلمة، وهذا أكبر من خذلان من فقد كماليات ليست متعينة له..

ومراتب الخذلان تتفاوت كذلك باعتبار صلة الخاذل بالمخذول؛ فكلما قويت الصلة بينهما أو قوي حق المخذول على الخاذل كلما اشتد إثم الخذلان، فخذلان الولد لوالده، والأخ لأخيه، والزوج لزوجته، والأمير لرعيته، والعالم للأمة، والمجاهد للمستضعف، والحليف لحليفه، والجار لجاره..، أعظم إثما من خذلان من هم دونهم في الحقوق.

وبالعموم فـ “شر الإخوان الخاذل”، وكما قال الغزالي في الإحياء: “أخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك، وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك”.

* ومن أشد الخذلان خذلان المرء لنفسه؛ وذلك حين تضعف عزيمته وتفسد مروءته ويرضى بالدنية في الدين؛ فلا يغضب لدينه الإسلام العظيم ولا لكرامته ولا لأهله فضلا عن أن يغضب لأمته، فيعيش ذليلا حقيرا حريصا على أي حياة، وهذا كمن قال الله جل وعلا فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

– القدرة المتعلقة بالخذلان:

الخذلان كما مر في تعريف العلماء لزوم الإعانة إذا أمكنت ولم يكن له عذر شرعي في تركها، وهي كذلك النصرة الجائزة مع القدرة عند الحاجة، وهذا الإمكان وتلك القدرة هي مثل القدرة المتعلقة بكافة الأوامر الشرعية في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما شابه ذلك، فتارة تتعين وتارة تكون فرض كفاية وتارة تكون عزيمة، وكثيرا ما يكون اعتبار القدرة فيما تعلق برد الظلم عن الغير هو نفس اعتبارها فيما تعلق برد الظلم عن النفس، ولذا قال البخاري في صحيحه في كتاب الإكراه: “وكذلك كل مكرَه يخاف، فإنه يَذُبُّ عنه الظالم، ويقاتل دونه، ولا يخذله، فإن قاتل دون المظلوم فلا قَود عليه، ولا قصاص، وإن قيل له: لتشربن الخمر، أو لتأكلن الميتة، أو لتبيعن عبدك، أو تُقِرُّ بدَين، أو تهَب هبة، أو تحُل عقدة، أو لنقتلن أباك أو أخاك في الإسلام، وما أشبه ذلك، وسعه ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم»”، فقد نص البخاري رحمه الله على أن أحكام دفاع المسلم عن أخيه كأحكام دفاعه عن نفسه لا قود فيها ولا قصاص، وإن إكراه الأخ المسلم هو إكراه لأخيه في نفس الوقت.

– لن يضر المتخاذل إلا نفسه:

الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر، والخذلان الحقيقي هو ضياع آخرة المرء بما قدمت يداه في دنياه، فالمتخاذل الذي يضن بنفسه ولا ينصر المظلوم، يوكل إلى نفسه فيضيع، فـ «الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، فمن لم يكن الله في عونه فهو الخاسر، قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وأما المؤمن فهو في معية الله جل وعلا، يتذكر قوله سبحانه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».

* فأخاك أخاك أخا الإسلام، اشدد يدك على يده، وانصر نفسك بنصرته، فعزه عزك، وذل عدوه عدو الإسلام ذل عدوك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

والحمد لله رب العالمين. 

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى