الردع في الجهاد|| من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد للشيخ أبو شعيب طلحة المسير
الردع في الجهاد[1]
الجهاد في سبيل الله تعالى له أهداف عديدة؛ مثل: الدفاع عن المستضعفين، وحماية ديار المسلمين، وتحرير الأرض من حكم الطغاة الظالمين، ولتلك الأهداف وسائل عديدة يراد منها تحقيق المقصود؛ مثل: النكاية في العدو، والشدة على الكفار، ورد العدوان بمثله، والردع…، والمطلوب في طريق الجهاد هو بذل الوسع والطاقة وتقديم الدنيا بما فيها في سبيل الله تعالى، قال جل وعلا: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾، قال الطبري في تفسيره: “حق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه”.
ومقال اليوم هو عن الردع الذي هو من أهم الوسائل الضرورية لتحقيق مقاصد الجهاد.
أولا- تعريف الردع في الجهاد:
الردع لغة كما في لسان العرب: “الكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ. رَدَعَه يَرْدَعه رَدْعًا فارْتَدَع: كفَّه فكفَّ”.
وهذا المعنى هو الذي يستخدمه الفقهاء في تعبيراتهم التي يوردون فيها كلمة الردع ومشتقاتها، كقول العز بن عبد السلام في الفوائد: “ولما علم أن في عباده من يصول على النفوس والأبضاع والأموال بالضرب والزجر والتهديد وبقطع الأغنياء وقتل النفوس شرع ردعهم حفظا للنفوس والأبضاع ومنافع الأموال”، وكقول ابن الحاج في المدخل عن قتال البغاة: “يقاتَلون بنِيَّة ردعهم”، ونقل الشاطبي في الموافقات قول الشافعي: “ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدةُ الرَّدْع على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي”.
وجاء تعريف الردع في الكتب العسكرية المعاصرة كما في كتاب الردع والإستراتيجية: بأنه: “منع دولة معادية من اتخاذ قرار باستخدام أسلحتها أو منعها من العمل أو الرد، وذلك باتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي تشكل تهديدا كافيا”.
وفي كتاب فن الحرب الإسلامي، الردع هو: “إرغام الخصم على التقيد ببعض الحدود في إلحاق الضرر والتخلي عن تصعيد النزاع”.
وبذلك يمكن القول بأن الردع في الجهاد هو: “الوسائل القتالية التي تجبر العدو على الكف عن بعض الأمور”.
فالردع أخص من النكاية في العدو وأعم من الانتصار عليه، فليست كل نكاية في العدو هي ردعا، ولكن كل ردع هو نكاية في العدو، وليس كل ردع هو انتصارا كاملا، ولكن كل انتصار كامل هو ردع للعدو.
ثانيا- من أدلة الردع في الجهاد:
1- قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال ابن كثير في تفسيره: “أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم”، فالجهاد من أهدافه كف بأس الكفار وردعهم عن المسلمين.
2- وقال سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾، قال السعدي في تفسيره: “جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء”، فالجهاد من أهدافه استنقاذ المستضعفين ونصرهم ممن قهرهم، وهذا من ردع الكافرين عن المسلمين.
3- وقال جل وعلا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، قال الشربيني في تفسيره: “الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام”.
4- وقال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، قال السعدي في تفسيره: “لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لاستولى الكفار على المسلمين فخربوا معابدهم وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا أن الجهاد مشروع لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره”.
5- وقال تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، قال ابن كثير في تفسيره عن غزوة بني النضير: “ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، وإرهابا وإرعابا لقلوبهم…، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم وإرغام لأنوفهم”، وقد أدى ذلك الردع هدفه فجلى بنو النضير عن المدينة بلا قتال.
6- وقال جل وعلا: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ فهو عليه السلام هددهم وخوفهم فردعهم واستسلموا وأسلموا.
7- وقال صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، قال ابن هبيرة في الإفصاح: “يعني الخوف الذي وضعه الله تعالى منه في القلوب، فإنه نصره به، فكفاه كثيرًا من القتال”.
8- كثير من الغزوات والبعوث والسرايا التي تهدف لردع المشركين: ومن ذلك ما ذكره المباركفوري في الرحيق المختوم عن غزوة نجد في السنة الرابعة من الهجرة: “تحشَّد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساوة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين”.
9- ردع أبي بصير وأبي جندل لقريش: وذلك بعد صلح الحديبية الذي كان من شروطه رد المسلمين من يأتي من قريش مسلما، وبذلك فقد ضعفاء مكة المأوى الذي كانوا يهاجرون له بالمدينة، ففر أبو بصير وأبو جندل من كفار قريش إلى ساحل البحر، وفر بعض المسلمين كذلك إليهم، وأصبحوا يعترضون قوافل قريش، حتى اضطروا مشركي قريش إلى التنازل عن هذا الشرط، قال البخاري رحمه الله: «فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة..، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم».
10- معاقبة أئمة الكفر: وذلك حتى يكونوا عبرة لغيرهم وردعا لقومهم، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسيرين النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بعد غزوة بدر ولم يقتل صلى الله عليه وسلم بقية أسرى بدر السبعين بل قبل منهم الفداء.
ثالثا- أهمية الردع في الجهاد:
يعد الردع من أهم وسائل القتال عامة والجهاد في سبيل الله تعالى خاصة؛ وذلك لأنه:
أ- يصون كثيرا من ديار المسلمين عن كثير من الاعتداءات، ويجعلها آمنة من أكثر المخاطر التي تنتاب الأمم الضعيفة، فالأمة الضعيفة التي لا تقدر على ردع عدوها تكون مستباحة، بل وهذا حاصل كذلك في عالم الحيوان، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما راع في غنمه عدا الذئب، فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السَّبُع ليس لها رَاع غيري» رواه البخاري.
ب- يمنع كثيرا من الأعداء من مواجهة المسلمين ويخوفهم من التعرض لهم أو مواجهتهم، وبذلك تحافظ الأمة على قوتها من أن تستنزف في المعارك التي لا تريدها، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾، فأخبر سبحانه أن رهبة المنافقين من المسلمين سبب في عدم نصرتهم اليهود والفرار من المعارك.
ج- يشيع روح العزة في قلوب أبناء الأمة ويحفزهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فالمصالح الملحوظة لأي طاعة هي بشائر عاجلة تثبت القلوب وتزيدها اطمئنانا، ولا زالت الأمم تفتخر بحماية حماها، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن لكل ملك حمى»، قال النووي في شرح مسلم: “معناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله؛ فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه”.
رابعا- مقومات الردع في الجهاد:
يصف بعض المعاصرين الردع بأنه ظاهرة سيكولوجية أي نفسية، يتم فيها تصور وفهم طريقة صنع القرار عند العدو ثم وضع الوسائل التي تؤثر على قراره، وبذلك يمكن تصور أهم مقومات الردع فيما يلي:
– أن يكون الردع فيه نكاية شديدة بالعدو يجعله يتألم منه، وليس مجرد إيذاء عابر لا يبالي به.
– أن يكون الردع مبنيا على قدرة حقيقية على إيقاع وسائله بالعدو، وليس مجرد تهديدات كلامية أو إعلامية.
– إظهار القدرة على ممارسة الردع؛ ليعلم العدو أن هناك ردعا حقيقيا؛ بحيث لا يجترئ على فعل حماقة ظنا منه عدم وجود قدرة على الرد.
– القدرة على الاستمرار في وسائل الردع؛ بحيث إن امتص العدو آثاره مرة يعجز عن امتصاصها ثانية وعاشرة وعلى المدى الطويل.
– معرفة ما يمتلكه العدو من وسائل يظنها رادعة؛ بحيث يكون ردع المجاهدين أشد أثرا من ردات فعل العدو وردعه، فيفقد ردع العدو فاعليته أو يضعف تأثيره أمام ردع المجاهدين.
– البعد عن نقاط الضعف أو التأثير التي يمكنها التحكم في مسار عمليات الردع، كفك التحالف مع قوى لا تتحمل الدخول في تحدي الردع، أو التمايز عن سكان منطقة محددة كي لا يعيقوا الردع المنطلق من أماكنهم..
خامسا- أحكام الردع في الجهاد:
الأصل في أحكام الردع أنها داخلة في الأحكام الفقهية العامة للجهاد في سبيل الله تعالى؛ سواء في وسائل الجهاد أو أدواته أو طرقه أو ما يجوز للمجاهد وما لا يجوز له.
ولكن الردع ألصق في حالات كثيرة بأحكام الضرورة وما يتعلق بها من موازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأنها قائمة على تحصيل وسائل حفظ دين ودماء وأعراض المسلمين، بالتعرض لدماء ومصالح أعدائهم.
وعن الموازنة بين المصالح والمفاسد قال السرخسي في المبسوط: “إذا لم نجد بدا من نوع ضرر رجحنا أهون الضررين على أعظمهما”، وقال الآمدي في الإحكام: “ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى رفع أعلاهما”، وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي: “فهاهنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزامه لأمر مبغوض مكروه وتفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل”.
إن النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينها خاصة عند التعارض والتقارب علم جليل يحتاج إلى دقة وضبط، ومن أهم الضوابط التي تعين على ذلك، وينبغي مراعاتها عند النظر في تعارض المصالح والمفاسد ما يلي:
أ- الرجوع للموازنة بين المصالح والمفاسد لأمثل أهل العلم العاملين المطلعين على أحوال الناس: لأن النظر في هذا الباب دقيق جدا، والخلط في تلك المسائل من أوسع الأبواب التي يدخل منها الشيطان على الصالحين؛ حيث يعظم الصغائر ويصغر العظائم ويشكك في الحقائق ويؤكد الظنون والتخرصات ليزيغوا، وبالرجوع إلى أهل الذكر تتبين المصالح والدقائق والاعتبارات والمآلات التي تخفى على الكثيرين.
ب- تعذر الجمع بين المصالح كلها وتعذر دفع المفاسد كلها: فكلما أمكن جمع المصالح ودفع المفاسد تعين ذلك، ولا يصار إلى الترجيح طالما أمكن الجمع، فإن تعذر الجمع تحول إلى الترجيح بين المصالح والموازنة بين المفاسد.
ت- معرفة مراتب المصالح والمفاسد: وما كان منها كليا أو جزئيا، وعاما أو خاصا، وضروريا أو حاجيا أو تحسينيا، وقطعيا أو ظنيا، ثم الموازنة في كل مسألة بين الخيارات المطروحة وما يحققه كل خيار من مصالح ويتلبس به من مفاسد.
ث- تقديم فعل المصلحة الكبرى على ما دونها: وتقديم دفع المفسدة الكبرى على ما دونها، وارتكاب أخف الضررين اتقاء لأشدهما.
ج- أعلى المصالح التي يجب على الفرد المحافظة عليها هي أصل إيمانه أولا، ثم أصل إيمان المسلمين، وهو مقدم على حفظ النفس والعقل والنسل والمال، ثم بعد ذلك تكون الموازنة بفقه بين المصالح والمفاسد؛ فرغم أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس وحفظ النفس مقدم على حفظ العقل والنسل والمال إلا أن الموازنة مثلا بين ما يعم الأمة من حفظ العقل مع ما يخص بعضها من حفظ النفس أو بين ما يحفظ المال قطعا ويحفظ النفس ظنا يجعل للموازنة الحقيقية دورا مهما في ترجيح أعلى المصلحتين.
ح- تقدر ضرورة الترجيح بين المصالح والمفاسد بقدرها: فمتى أمكن جمع المصالح ودفع المفاسد تعين الرجوع للجمع وترك الترجيح.
* ومما تكثر فيه الحاجة للموازنة عند الردع مسائل استهداف غير المحاربين من العدو كالنساء والأطفال: فالأصل أنه لا يجوز تقصد قتل نساء المشركين وأطفالهم، فعن رباح بن ربيع رضي الله عنه، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال: ما كانت هذه لتقاتل. قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلا فقال: قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفا» رواه أبو داود، وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» رواه مسلم.
وقد قتل وعذب مشركو مكة نساء المسلمين، ومع ذلك لم يَردَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقتل وتعذيب نساء المشركين، فهذه سمية رضي الله عنها قتلها المشركون بمكة ومع ذلك لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم نساء قريش.
وهذا فرعون وجنده قال الله جل وعلا عنهم: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾، ومع ذلك لم يقتل بنو إسرائيل أطفال المصريين عند خروجهم من مصر، مع أنه ورد أنهم أخذوا أموالا منهم عند الخروج من مصر.
ولطالما قتل المشركون من صليبيين وتتار وغيرهم نساء وأطفال المسلمين عبر قرون طويلة، ولم يكن علماء المسلمين في تلك القرون يجيزون تقصد نسائهم وأطفالهم بالقتل، فتقصد قتلهم كأن يكونوا أسرى بأيدينا فنقتلهم مخالف للإجماع على حرمة تقصد قتل نساء وأطفال المشركين بلا سبب شرعي، قال ابن عبد البر: “وأجمع العلماء على القول بذلك ولا يجوز عندهم قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن يقاتل”..
– وأشد مِن تقصُّد قتل النساء تقصد قتل الأطفال فهذا أشد حرمة.
– ولكن، يجوز قتل نساء المشركين وأطفالهم للحاجة أو الضرورة في حالات التترس والتبييت ورميهم بالمنجنيق وإذا قاتلوا، لأدلة كثيرة؛ منها حديث الصعب بن جثامة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «سئل عن أهل الدار يُبيَّتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: هم منهم» رواه البخاري.
– وإن كان نساء العدو من المرتدات فالأمر في قتلهن أوسع من نساء الكفار الأصليين؛ لما هو معلوم من تغليظ الشريعة لأحكام المرتدين، قال صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري.
– أما إن كان الردع لا يحصل إلا بتقصد قتل نساء وأطفال المشركين، فينظر حينها في درجة الحاجة لهذا الردع، فإن كان هو الردع العام الذي لا تخلو الحاجة منه في كل عصر وفي كل جيش، فهذه ليست الضرورة التي يخالف النص من أجلها؛ لأن النهي ورد في زمن الحاجة لمثل هذا الردع العام.
– أما إن كانت الضرورة تقتضي ردعا خاصا كأن يكون المشركون يقتلون أطفال ونساء المسلمين ولم يمكن ردعهم عن هذا إلا بتقصد قتل نسائهم وأطفالهم، فحفظ أطفالنا ونسائنا أولى، فهنا يجوز ردعهم بتقصد قتل غير المحاربين منهم ردعا لهم، وتقدر الضرورة بقدرها.
– [وينبغي ملاحظة أن الكلام كله هنا عن الرجال الكفار وزوجاتهم الكافرات وأولادهم الكفار، ولا يدخل في ذلك من ثبت إسلامه من زوجاتهم وأبنائهم، ومن ذلك المسلمة زوجة المرتد الذي ليست ردته معلومة من الدين بالضرورة فهي على أصل إسلامها ما لم تأت هي بناقض].
* أسأل الله أن يحفظ المسلمين، وأن ينصر المجاهدين، وأن يرد كيد الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
كتبها
أبو شعيب طلحة محمد المسير
لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد bdf اضغط هنا
للقرأة من الموقع تابع ⇓
مائة مقالة في الحركة والجهاد الشيخ أبو شعيب طلحة المسير