مأساة سالم (إشكالية الخلط بين الثقة والكفاءة والاحتياط)
مأساة سالم (إشكالية الخلط بين الثقة والكفاءة والاحتياط)
جاء في كتاب “تدمر شاهد ومشهود” والذي ينقل بعض مآسي سجن تدمر، الحديث عن سالم الحامد أبي الفرج رحمه الله، وما سببته شخصيته من نكبات، أنقله اليوم تذكيرا بخطورة الخلط بين الثقة والكفاءة والاحتياط.
قال المؤلف: (سالم هو الابن الأصغر للشيخ محمد الحامد رحمه الله أحد العلماء المشهورين في حماة.. طلب مني أواخر أيامه أن يستلم كل المراسلات القادمة من عمان ليوزعها على مراسلي المحافظات بنفسه. وعندما أبديت له خشيتي أن ترهقه المسؤولية أو أن تزداد نسبة انكشافه بازدياد الذين يلتقيهم، أصر. وفي اللقاء التالي قال لي بأن الشيخ سعيد حوى يريد ذلك أيضاً ويأمر به. فلم يسعني إلا أن أجيب طلبه. وكان من مفارقات الأمور أن اعتقال سالم أتى بعد فترة وجيزة عن طريق اعتقال أحد هؤلاء المراسلين أنفسهم!
لم يكن سالم وهو أمين سر تنظيم دمشق يمشي مسلحاً، وعندما سألناه عن ذلك مرة قال لنا: إن حدث شيء فلن يتمكنوا من اعتقالي، فإما أن أموت أو أن أفلت منهم. لكن الظروف أتت على غير ما توقع سالم، ففي شهر آب عام 1980 تم اعتقال مراسل حمص، ولم يكن بين اعتقاله وموعده مع سالم أكثر من ساعة، لكن الأخ اعترف من شدة التعذيب على الموعد المقرر على موقف باص الزبداني عند وكالة سانا للأخبار.
ولقد حدثني سالم بنفسه فيما بعد كيف وجد مجموعة من المخابرات الذين تنكروا بثوب البداوة وكمنوا في المكان ينقضون عليه فور حضوره، فيمسكه اثنان منهم من يديه خشية أن يكون مسلحاً، ويجتمع البقية عليه يوسعونه ضرباً حتى فقد الوعي، فلما صحى وجد نفسه بين أيديهم في فرع المخابرات لا حيلة له ولا حول..
لم يعترف سالم في البداية إلا أنه مجرد مراسل عادي. لكن العذاب الذي انصب عليه طوال يوم كامل فاق قدرته على الاحتمال. وكانوا عندما اعتقل قد وجدوا مفتاح البيت الذ يتخذه قاعدة خاصة به في جيبه. وسرعان ما طوقوا المكان وداهموا البيت… ودخلوا البيت وجدوا فيه بين أوراق سالم رسالة من الأستاذ عبد الله الطنطاوي من عمان يكلفه فيها أمانة مركز دمشق رسمياً، فعرفوا وقتها من هو سالم بالظبط. وفي نفس المكان عثرت المخابرات على الهويات المزورة التي يستخدمها التنظيم الناشئ والختم الذي كان يختم به سالم فوق الصور..، وصار كل شاب يستخدم هذا النوع من الهويات في حكم المكشوف، وسرعان ما جرى اعتقال الكثير من أولئك في الكمائن داخل دمشق وبقية المحافظات أو على الحدود… فإذا أضفنا إلى ذلك اعترافات سالم تحت التعذيب تأكد لنا أن اعتقال أبي الفرج كان ضربة قاسية للتنظيم..
🔘لكن الأمر الذي ضاعف المصاب وكبد الإخوة مزيداً من الخسائر كان حقيقة الأمر في قيام نشرة “النذير” الناطقة باسم تنظيم الإخوان بالمسارعة إلى نشر موضوع عن حياة الشهيد سالم الحامد..، الذي قاوم السلطة ساعات عديدة في بيته بدمشق قبل أن يلقى ربه، ورسمت له قصة بطولية لا أساس لها من الصحة! وسادت هذه القناعة بين الإخوة في دمشق وباقي المحافظات، وظن الناس أنهم في مأمن من اعترافات سالم. وعاد كل منا لمتابعة مهمته بلا أدنى قدر من حذر…
سالم.. هو شخص بالغ التهذيب رقيق المشاعر بطبعه، أصلح ما يكون مربياً. لكن قرار رميه في معترك هذه المعمعة لم يكن ليناسب مؤهلاته وشخصيته..
ورغم أن سجل اعترافات سالم امتلأ إلى حافته سواء بما أدلى به تحت التعذيب أو ما توصلت المخابرات إليه عن طريق اكتشاف الهويات المزورة والمفاتيح الأخرى، إلا أنهم كأنما أحسوا أن سالم لا يزال يخفي شيئاً… ولذلك رسموا له في فرع المخابرات بالعدوي شَركاً جديداً أوقعوه فيه، وأوقعوا معه مجموعة جديدة من الضحايا.
وكانت الحيلة حينما أمروا سجاناً من المنطقة الشرقية اسمه وائل أن يتودد إلى سالم ويتقرب منه بذكاء وحنكة. فأخذ ذاك يزيد له في الطعام يوماً، أو يحضر إليه كوب حليب في خفاء مُدَّعَى. ومع الملاطفة في الكلام والرقة في التصرفات نمت العلاقة بينهما وتمت الخطوة الأولى. وفي يوم من الأيام جاء وائل هذا إلى سالم وقال له: أنا في الحقيقة واحد منكم.. ولست في هذا المكان إلا لأنني مجند في الخدمة الإلزامية. وأرى أنه لا بد وأن نستفيد من الفرصة ونحرركم مثلما حصل في كفر سوسة.
ومن المعلوم أن مجنداً آخر في سجن كفر سوسة كان سبق له وأن تعاون مع الإخوة السجناء هناك وتمكن في أيار من العام السابق 1980من مساعدة سبعة عشر منهم على الهرب في حادثة غير مسبوقة. فلما بلع سالم الطعم وسأل وائل عن الكيفية طلب ذاك منه أن يؤمن له صلة بمجموعات مسلحة خارج السجن ليساعدوه، فأعطاه سالم الأسماء. وفي ليلة واحدة تم اعتقال قرابة اثني عشر شخصاً لم يكونوا مكشوفين أبداً.. وتم للسلطة ما أرادت، واطمأنوا إلى أن سالم أفرغ الآن ما في جعبته، فنقلوه إلى فرع التحقيق العسكري، لألتقيه مترعاً بالشجون والأسى).
الشيخ أبو شعيب طلحة المسير