الجهاد مع العسرة والقرح والشدة – الركن الدعوي- مجلة بلاغ العدد الخامس والثلاثون ⁨رمضان ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد ٣٥ - رمضان ١٤٤٣ هـ⁩⁩⁩⁩

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد؛

قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: “يقول تعالى لعباده المؤمنين، مهيجا لهم على النفير في سبيله، فقال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) أي: في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، وفي جميع الأحوال”.

وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا)، وقال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) فالجهاد لا يثبت عليه إلا من ثبته الله، ففي الجهاد شهادة وجراح ونزوح، أسر وبتر، هجر وفقد، خوف وجوع، برد وحر، شدة وضيق، بلاء وابتلاء، تعب وسهر وقلق، صبر ومصابرة ومرابطة، قال صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»، قال الطيبي: “فيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره وتفوقه على سائر الأعمال”.

* وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام أروع الأمثلة في الثبات على الجهاد مع العسرة والقرح والشدة، ومن ذلك:

– الجهاد رغم التعب والجراح:

فقد أصابت الشدة المسلمين يوم أحد ووقعت عليهم جراح عظيمة ومشقة كبيرة، ومع ذلك لم يعد جيش المسلمين إلى المدينة بل خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام إلى حمراء الأسد لملاقاة قريش ولم يتخلفوا تحت أي عذر، فدب الرعب في قلوب المشركين وأسرعوا للعودة إلى مكة، وقد مدح الله عز وجل أصحاب غزوة حمراء الأسد، فقال: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).

– الجهاد رغم شدة الجوع:

ومن ذلك ما حصل يوم الخندق، قال جابر رضي الله عنه عن ذلك اليوم: «لَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا»، وفي رواية: «لَمَّا حَفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْخَنْدَقَ، أَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى رَبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ».

ولما خرج الصحابة في غزوة سيف البحر بإمرة أبي عبيدة ابن الجراح، كانوا في ضائقة شديدة، قال عنها جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ» فسأل الراوي وهب بن كيسان وهو من التابعين جابرا رضي الله عنه: “وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ؟” فَقَالَ جابر رضي الله عنه: «لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ».

وهذه الشدة تذكرنا بصبر الصادقين مع طالوت عليه السلام حين لم يشربوا من النهر إلا غرفة باليد امتثالا لأمر الله جل وعلا بعدم الشرب من النهر امتحانا واختبارا لهم، (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).

الجهاد رغم العسرة والفقر:

ففي جيش العسرة ورغم الفقر الشديد يجتمع الصحابة رضوان الله عليهم ليجهزوا الجيش بما يحتاج من طعام وشراب وسلاح وعتاد، كلٌ بما يستطيع، فيأتي الفاروق بنصف ماله، ليسبقه الصديق رضي الله عنهما فيقدم جميع ماله، وإذ بالتاجر التقي النقي الأمين المتاجر مع ربه في الشدة عثمان ذي النورين رضي الله عنه يقدم قافلة تجارية كاملة بأحمالها في سبيل الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم»..

– الجهاد رغم شدة البرد وشدة الحر:

ففي يوم الخندق: يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما واصفًا الشدة التي لحقت بهم: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ»، وفي رواية: «شِدَّة الْخَوْفِ، وَشِدَّة الْجُوعِ، وَشِدَّة الْبَرْدِ».

وكانت غزوة تبوك في شدة الحر حتى قال المنافقون: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).

* آداب المجاهد عند العسرة والقرح والشدة:

– احتساب تلك المشقة في سبيل الله تعالى:

قال تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

 

– الصبر والثبات:

قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

– لزوم طاعة الله ففيها الخير والنجاة:

قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا).

– مواساة إخوانه:

ومن أبهى صور تلك المواساة ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد عن أبي الجهم بن حذيفة العدوي قال: “انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي، ومعي شنة من ماء وإناء، فقلت: إن كان به رماق سقيته من الماء، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به ينشغ، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، فأتيته، فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، ثم أتيت ابن عمي فإذا هو قد مات”.

– انتظار الفرج:

قال صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».

* أخي المجاهد: احذر من التقصير في المستطاع تحت مزاعم التعب والمشقة؛ فقد قال الله جل وعلا عن قوم: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، وقال سبحانه وتعالى: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا).

– فاللهم ارزقنا الجد والاجتهاد في القول والعمل جهادًا ورباطًا وصدعًا بالحق ونصرةً للمظلوم وأخذًا على يد الظالم ونصحًا للمسلمين، لا نخاف فيك لومة لائم، ونسألك الثبات حتى الممات، والنصر على الأعداء، وشهادة في سبيلك ترضى بها عنا.

والحمد لله رب العالمين..

للمزيد من مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا

لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى