سكينة المجاهد- الركن الدعوي -مجلة بلاغ العدد ٤٣

⁨مجلة بلاغ العدد ٤٣ - جمادى الأولى ١٤٤٤ هـ⁩⁩⁩⁩⁩December 02, 2022

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن السَّكينة حال من أحوال عباد الله الصالحين ينزله الله جل وعلا على من اختار منهم كرامة لهم ورفعة لمنزلتهم، لذا كان هذا الحديث عن علاقة السكينة بالجهاد:

* معنى السكينة:

هي الطمأنينة وهدوء القلب عند الخوف وحدوث الاضطرابات ووقوع المدلهمات وانتشار الرعب؛ حيث تبعث في القلب الراحة والطمأنينة وزيادة في الإيمان وصبرًا على الشدائد وقوة في اليقين والثبات.

ومن المعاني المتعلقة بالسكينة: الخشوع والتواضع والوقار والهدوء واللين والسكون والحُلُم والصبر والثبات وخفض الجناح.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات..، والسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش، واللغو والهجر، وكل باطل”.

* السكينة والجهاد:

رغم أن السكينة حالة يتصف بها الصالحون في كثير من مواقف حياتهم، إلا أنها ألصق ما تكون بالجهاد، وأكثر ما تتنزل فيه، وهي مدد للمجاهدين في سبيل الله، قال ابن القيم: “هي آية النصر تخلع قلوب الأعداء بصوتها رعبا إذا التقى الصفان للقتال”، ولذلك وردت السكينة في القرآن الكريم في ستة مواضع كلها تتعلق بالجهاد في سبيل الله تعالى، وهي:

– في قصة جهاد طالوت: قال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

– يوم حنين: قال تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) قال الطبري في تفسيره: “ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وتوليتكم الأعداءَ أدباركم، كشف الله نازل البلاء عنكم، بإنـزاله السكينة، وهي الأمنة والطمأنينة عليكم”.

– في الهجرة: قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال السعدي في تفسير الآية: “وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته”.

– في بيعة الرضوان وصلح الحديبية: وقد وردت السكينة في ثلاث آيات تتعلق بهذه الحادثة، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

وقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) جاء في تفسير السعدي رحمه الله: “(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) شكرا لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم”.

وقال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

* صور سكينة المجاهد:

قد تتنزل السكينة على المجاهد في هيئات عديدة:

– منها: شجاعة وإقدام واقتحام للمخاطر العظام.

– ومنها: ثبات لا تزحزحه الخطوب ولا الحتوف..

– ومنها: رهبة في قلوب الأعداء وهيبة للمجاهدين.

– ومنها: نوم يصيب المجاهدين فيطمئنهم ويثبتهم ويقويهم ويذهب عنهم الخوف والتعب ووساوس الشيطان..

 

قال ابن القيم: “وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها.. ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال: فلما اشتدَّ عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبة”.

وما تزال السكينة بفضل الله تتنزل على المجاهدين جيلا بعد جيل وينالون من بركتها الخير العظيم والثناء الجميل والفتح المبين، وعاين كثير من المجاهدين ذلك تحت أزيز الرصاص والقذائف وأثناء المعارك الحامية، وهذه نعمة من الله عز وجل تستوجب الحمد والشكر والثناء عليه تبارك وتعالى.

* من أسباب تنزل السكينة:

– اليقين بمعية الله عز وجل: وقد اقترن التنبيه بذلك مع تنزل السكينة في قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).

– ذكر الله عز وجل:

عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ».

– التبرؤ من حول النفس وقوتها إلى حول الله وقوته:

فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يقول مع الصحابة رضي الله عنهم:

اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الألى قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا

– التوكل على الله عز وجل:

قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

– طاعة الله ورسوله والتزام أمرهما:

يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن السكينة التي غشيته في الجوع والبرد والتعب يوم الخندق، حين قال صلى الله عليه وسلم: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»: “فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ”.

* اللهم أنزل علينا سكينة من عندك تطمئن بها قلوبنا، وتنشرح بها صدورنا، وتقر بها عيوننا، وتقضي بها حوائجنا، وتنصرنا بها على أعدائنا، وتقهر بها الجبابرة والكفرة والطغاة والمجرمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى