وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) من أسس عقيدة الولاء والبراء في الإسلام التي هي من أهم مسائل العقيدة؛ لذا كان هذا الشرح للآية الكريمة عبر النقاط التالية:
– تعريف الرضا.
– أسباب رضا الكفار.
– إرضاء الكفار لمسلمين.
– حكم من رضي عنه الكفار.
أولا- تعريف الرضا:
الرضا هو: “سرور القلب وطيب النفس، وضد السخط والكراهية” “الموسوعة الفقهية”.
وهو صفة من صفات القلب وهو أخص من المحبة، قال الغزالي في الإحياء: “اعلم أن الرضا ثمرة من ثمار المحبة“، وقال ابن منظور في لسان العرب: “الرضا والسَّخط من صفات القلب، وصفاتُ الأفعال أدنى رُتبة من صفات الذات“.
وصفة الرضا في القلب هذه تؤثر على الجوارح وتظهر عليها، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: “إن اللَّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامَهَا بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول“، فدليل رضا القلب هو عمل الجوارح من قول أو فعل بل السكوت في معرض الحاجة بيان، بل قد يكون العتاب رضا كما في أوضح التفاسير: “العتاب من علامات الرضا؛ وهو مخاطبة الإدلال ومذاكرة الوجدان“، قال البيضاوي في الغاية القصوى عن الرضا: “لما خفي نيط باللفظ الدال عليه صريحًا.. أو كناية“، وتلك الأدلة العملية على رضا القلب تتفاوت درجة دلالتها قوة وضعفا بناء على درجة قطعيتها أو ظنيتها..
– فنخلص من ذلك إلى أن رضا الكفار عن الشخص هو محبتهم له وسرورهم به، ويُعرف ذلك الرضا بمواقف الكفار منه ودلالتها على الرضا؛ فكلما قويت دلالة تلك المواقف على الرضا علمنا قوة رضاهم القلبي عنه، وكلما ضعفت دلالة تلك المواقف على الرضا علمنا ضعف رضاهم القلبي أو انعدامه.
ثانيا- أسباب رضا الكفار:
– لا يحصل رضا الكفار التام والرضا المطلق عن المرء إلا إن اتبع ملتهم وانسلخ عن الإسلام، قال تعالى مخبرا عن تلك السنة الكونية: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
– وبين سبحانه وتعالى الحالة التي يحب فيها الكفار المرء أشد المحبة ويرضون به ويتخذونه خليلا، وهي حالة الافتراء على الله جل وعلا، فقال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا).
– وأخبر جل وعلا أن الولاية والمحبة والرضا من اليهود والنصارى والظالمين إنما تكون لأمثالهم من اليهود والنصارى والظالمين، فإذا وُجدت تلك الولاية منهم فاعلم أنهم بذلوها لأمثالهم، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال تعالى: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
– وكذلك الأصل في الكفار أنهم إن قدروا لم يراعوا في المسلمين قرابة ولا عهدا، بل انتهكوا حرماتهم واعتدوا عليهم، فمراعاتهم التام للحرمات قرينة على أنهم راعوا المنسلخين عن الإسلام، قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).
– وهم مستمرون في قتال المسلمين ليردوهم عن الإسلام طالما كان ذلك في استطاعتهم، فإن تركوا قتال المسلمين مع الاستطاعة فهذا مظنة وجود انحراف عند المسلمين، قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).
– وبما أن الرضا درجات ومنه مطلق الرضا وهو أقل ما يدل على الرضا، فإن الكفار يقايضون بعض الرضا ببعض مسايرة المرء لهم، فكلما ازدادت مسايرته لهم ازداد رضاهم، كما قال جل وعلا: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).
* وإلى هذه الحقائق أشار العلماء في تفاسيرهم وكتبهم، ومن ذلك قول الطبري في تفسيره: “وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق“.
وقال الواحدي في أسباب النزول: “قوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى) الآية، قال المفسرون: إنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعون أنهم إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية“.
وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: “فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه“.
وقال سيد قطب في الظلال: “يضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى.. إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى دين أهل الكتاب، ولن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، وإلا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية!..
هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة.. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!..
إنها معركة العقيدة. إنها ليست معركة الأرض. ولا الغلة. ولا المراكز العسكرية. ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين. ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا. ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهو سبحانه أصدق القائلين: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).. فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود!“.
ثالثا- إرضاء الكفار لمسلمين:
من مكر الكفار أنهم يحاولون أحيانا إرضاء بعض المسلمين استدراجا لهم ومكرا بهم، ليتوصلوا من خلال ذلك الاسترضاء إلى فتنتهم عن دينهم فيرضى الكفار حينها عن المفتونين، قال تعالى: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)، قال الطبري في تفسيره: “يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء“.
لذا كان الأمر الإلهي القاطع هو الحذر منهم والبعد عن أهوائهم وعدم طاعتهم في بعض الأمر فضلا عن طاعتهم في كل الأمر، وتحذير المسلمين من أن مسايرتهم في ذاك الطريق المنحرف تقطع عنهم نصرة الله جل وعلا فيصيبهم العذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، وقال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وقال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ).
رابعا- حكم من رضي عنه الكفار:
الأصل أن شهادة الكافر الصريحة على مسلم ليست دليلا يقام عليه حكم شرعي؛ لأن الكافر ليس من أهل العدالة البتة، وقد تكون تلك الشهادة الصريحة مجرد قرينة تعضد الأدلة الثابتة المعتبرة شرعا. فمن باب أولى ألا يكون رضا الكفار عن الشخص دليلا على اتباعه ملتهم، فقد يكون ما ظهر من الكفار استرضاء لمسلم مكرا به وليس رضا، وقد يكون ما ظهر منهم رضا جزئيا وليس كليا، وقد يكون رضا لما ظنوه اتباعا لملتهم وهو في الحقيقة ليس كذلك بل هو اتباع لبعض معاصيهم أو هي أفعال حصلت عند إكراه معتبر شرعا..، لذا فلا يحكم على الشخص بأنه على ملتهم بمجرد ظهور رضا الكفار عنه، وإن كان هذا الظهور للرضا عنه قرينة تستدعي غالبا الحذر من المرضي عنه وتحذيره من مغبة طريقه الذي يسير فيه.
* والخلاصة أن رضا الكافرين قرينة على فساد المرضي عنه، واسترضاءهم المسلمين مكر سوء بهم، فعلى العاقل أن يحذر الشيطان وحزبه وأن ينتبه لكيد أوليائه، وليعلم أن من اعتصم بالله كفاه، ومن توكل عليه هداه، ومن جاهد في الله حق جهاده نصره على الشيطان وجنده وجموع حزبه، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).
فهما طريقان؛ طريق العزة بالله في سبيل الله ممن رضي عن الله ورضي الله عنه وأحله دار الرضوان، وطريق الذل والهوان في مسايرة الشيطان وحزبه المغلوبين، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)؟.
والحمد لله رب العالمين.