وقفات مع تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} – مجلة بلاغ العدد ٦٦
د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا مقال قديم كنت قد كتبته لمجلة بلاغ قبل سنتين تقريبًا أرى أنه من المهم إعادة نشره في خضم توضيح طبيعة الصراع بين الصهاينة والصفويين خاصة مع إعادة البعض من النخب إنتاج أدبيات فتنة حرب الــ 2006 التي عرّتها أحداث الشام واليمن فكشفت الوجه الحقيقي للصفويين الجدد ومحور مقاومتهم المزعوم وإجرامهم، إن سنن الله في خلقه جاريةٌ وماضيةٌ إلى يوم القيامة قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، والسعيد من وفقه الله لفهم هذه السنن ومعرفة واجب وقته وأدائه على الحال التي يحب ربنا ويرضى، ولعل من المناسب ونحن نتابع أحداث الحرب الروسية – الأوكرانية الحالية، وما سبقها من فضل الله على عباده في أفغانستان بدحر المحتل الأمريكي وحلفائه وتحكيم شرع الله، وما سبق ذلك كله من كسب أرباب الثورات المضادة وأسيادهم للجولة الحالية من الحرب على ثورات الشعوب المسلمة، أن نقف مع تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقفات تعيننا على فهم الواقع والسنن وصولًا إلى معرفة واجب الوقت وأدائه، فأقول وبالله التوفيق:
– الوقفة الأولى:
أورد الإمام الطبري رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سؤالًا، فقال: قد عُلم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء عليهم السلام، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرًا كإبراهيم عليه السلام، وإما إلى السماء كعيسى عليه السلام، فأين النصرة في الدنيا؟!
ثم أجاب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عامًا، والمراد به البعض، قال: وهذا سائغٌ في اللغة.
الثاني: أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم سواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، ثم بين كيف يكون الانتصار من الله لعباده بكلام حاصله أن هذا الانتصار يكون إما بــ:
1 – سنة شرعية: وذلك بإعلاء الرسل والمؤمنين على من كذّبهم وإظفارهم بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان عليهما السلام فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإظهاره على من كذّبه من قومه.
2 – سنة كونية قدرية: وذلك بالانتقام ممن حادّ الرسل وأتباعهم وشاقهم، ويكون ذلك من خلال:
أ – إهلاكهم وإنجاء الرسل وأتباعهم ممن كذّبهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح عليه السلام وقومه من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه إذ أهلكهم غرقا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك.
ب – التسليط القدري للأعداء على مكذّبي الرسل وأتباعهم بعد وفاة الرسل، كما حصل مع شعياء عليه السلام بعد مهلكه، بتسليط من انتقم لقتله من قتلته، وكما حصل بعد قتلة يحيى عليه السلام، حيث سلط الله على من قتله بختنصر فقتل وأسر وجاس خلال الديار، وكالانتصار لعيسى عليه السلام بتسليط الروم على مريدي قتله حتى إهلاكهم.
– الوقفة الثانية:
إن سنة الانتصار هذه هي في الأنبياء والرسل خاصة وفي دعاة الحق عامة إلى يوم القيامة، قال السدي رحمه الله: “ما قتل قومٌ قط نبيًا أو قومًا من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله -عز وجل- من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا”، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ»، وروي في حديث آخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب».
– الوقفة الثالثة:
في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
يقول ابن كثير رحمه الله: “وَقَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يعني أَنَّهُ بَعد إِنزَال التَّورَاة لَم يُعَذِّب أُمَّة بِعَامَّةٍ بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاء الله مِنْ الْمُشْرِكِينَ”، وهذا معناه أن الجهاد بمعناه الخاص الذي هو قتال الكافرين الممتنعين عن الإسلام والتوحيد لم يكن مُشرّعًا في الأمم السابقة، منذ نوح عليه السلام، حتى أمة موسى عليه السلام، فكان سابقًا: يدعو كلّ نبيّ قومَه إلى التوحيد والإسلام، وترك عبادة الأوثان والأصنام، حتى إذا أبَوا وأصرّوا على الكفر، واستكبروا استكبارًا، أهلكهم الله بعذابٍ من عنده، ونجَّى هذا النبيَّ ومَن آمن معه، كما أخبر سبحانه عن ذلك بقوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، وأنه بعد فرض الجهاد ليس هناك تعذيب أمةٍ بعامةٍ كسنةٍ كونيةٍ قدرية، وهذا يعني في ضوء تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} أن الانتصار من الله لأوليائه يكون من خلال السنة الشرعية (الجهاد) أو السنة الكونية القدرية (كتسليط الأعداء)، وأنه بعد فرض الجهاد لم يعذب الله أمةً بعامةٍ كما كان قبل فرض الجهاد”.
_ الوقفة الرابعة:
ما جرى في أفغانستان والانتصار الطالباني السني يندرج تحت الانتصار من الله سبحانه لعباده فيها بالسنة الشرعية؛ حيث نصرهم بتوفيقهم لطاعته وجهاد أعدائه، وقهرهم والغلبة عليهم والتمكين لهم في الأرض، وفضل الله هذا سنة جارية، بخلاف من عصى الله وخالف أوامره، وركن للظالمين، وعطل الجهاد، فسنة الله هنا هي في الذل وتسلط الأعداء.
_ الوقفة الخامسة:
ما يجري حاليًا في الحرب الروسية – الأوكرانية، يندرج تحت الانتصار من الله سبحانه وتعالى للدماء السنية الزكية التي أسالها المحتل الروسي خاصة على ثرى الشيشان والشام بالسنة “الكونية القدرية”، وذلك بتسليط الأوكران والغرب عليه، وهو من جهة أخرى إذلالٌ وإضعافٌ للمحتل الأمريكي وحلفائه الأوربيين، الذين قُهروا بفضل الله “شرعًا” في أفغانستان، وهاهم والروس يذوقون بعدل الله مرارة الحرب والتضييق في بلدانهم.
_ الوقفة السادسة:
هذا الانتصار من الله سبحانه للرسل وللمؤمنين، إنما هو في الحياة الدنيا، وفي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل.
* أخيرًا: يقول صاحب الظلال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} “إن الأرض لله، وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده -وفق سنته وحكمته-، فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها..، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها! وإن العاقبة للمتقين.. طال الزمن أم قصر.. فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير”.
والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا