هكذا يُصنع الحمقى! – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٣٥ – رمضان ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: غياث الحلبي
كان سعيد ضجرا معكر المزاج بسبب ضغوط الحياة المادية، فأمسك القلم وتناول مجموعة من الأوراق وقرر أن ينفث بعض الهذيان فيها، فكتب:
“السماء تمطر بغزارة، وتتابعت صبات المطر كأنها سهام مرسلة إلى الأرض، وصوت الرياح شديد يصك الآذان، والظلام الدامس يخيم على المدينة ويستر كل شيء أن تناله القوة الباصرة، وقد غابت مع الضياء الحرارة أيضا وكأنهما اتفقا على التخلف معا، فحلت محلهما حنادس الظلم وصقيع الشتاء.
كان لا يزال سائرا على قدميه على غير هدى، لا يعلم كم قطع في سيره وكم مضى من الزمان وهو يسير، غير أن ثيابه تبللت بشكل كامل، وأخذ البرد ينخر عظامه كأنه مثقب يدور فيها فيجعلها فتاتا.
ود لو وجد مكانا يأوي إليه حتى يطلع الصباح فيهتك بسيفه الذهبي غشاء الليل فيجرد الكون من ظلامه ويبدد بضيائه وحرارته أثقال البرد وآلامه، ولكن هذا لا يعدو أن يكون حلم يقظة؛ إذ دون حلم المنام مصاعب وعقبات.
دلف إلى غابة استقبلته وتوغل فيها، فهي على خطورتها ستحميه من عيون الرقباء وملاحظة الراصدين، وستحول بينه وبين الوشاة، سار حثيثا في الغابة وتمنى أن يجد فجأة -كما كان يقرأ في كتب الأدب- خباء يقطنه أعرابي من الأجواد فيقريه تلك الليلة ويأبى إلا أن ينحر له ناقة كوماء أو حتى شاة بل دجاجة، بل سيكون سعيدا إذا وجد عنده كسرا من الخبز، وأخذ الخيال يمر به حتى تمنى أن يجد ذلك الكوخ العجيب المصنوع من الحلوى وأمامه نهر من العصائر وداخله ساحرة شريرة تسمن الأولاد ثم تأكلهم، ليته يجده حتى لو كان سيغدو عشاء لتلك الساحرة، فأن يموت المرء شبعان ريان دفآن خير من أن يموت جائعا متجمدا متعبا.
لم يجد الخباء أو الكوخ بل وجد أغصان الأشجار المتدلية يصطدم بها رأسه فيمتلئ قلبه ذعرا، ووجد برك الماء الضحلة التي سقط فيها مرارا بعد انزلاق قدمه.
شعر أن قلبه سيتوقف من التعب والبرد، بل طمع أن يتوقف قلبه فعلا ليستريح مما هو فيه من ألوان الألم وأنواع العذاب.
أما لهذا الليل نهاية؟ هل عزف الصباح عن الطلوع؟ أقيام الساعة موعده؟
وبعد طول انتظار بدأت كتائب الفجر تطارد قطع الليل، وتلتها على استحياء شديد بعض ضفائر الشمس تتخلل السحاب وتصل من فروجها إلى الأرض مخففة من غلواء البرد الشديد.
قام بجمع بعض أغصان الأشجار وعانى كثيرا حتى دبت النار فيها أخيرا، وأحس بأن وهجها أم حنون تضمه إلى صدرها الحاني الدافئ.
أضاف إلى النار المشتعلة الكثير من الأغصان فازدادت توهجا وحرارة، وجعل يجفف ملابسه قطعة قطعة، ثم جال في الغابة قليلا فجمع بعض الثمار مما يجهل ويعرف ليسد بها الجوع الذي استبد به استبداد الحاكم الغشوم الذي لا يبصر أكثر من أرنبة أنفه.
وبينما هو يلقم وحش الجوع ما جادت به ثمار الغابة إذ سمع صوتا مريبا خيل إليه أنهم طالبوه، فترك الثمار والثياب وراح يعدو مسرعا على غير هدى”.
– انتهى سعيد من كتابة هذيانه وقد اعتدل مزاجه شيئا ما، وأراد أن يمزق الأوراق، ولكن قبل أن يمزقها خطر له أن يرسلها لصحيفة الأدب التي تصدرها منظمة إنسان، فهذيانه أفضل من القصص التافهة والحقيرة التي تنشرها تلك المنظمة في صحيفتها العارية من الأدب.
طوى سعيد الأوراق بعد أن وقعها باسم: “معذَّب الآفاق”، وعنون القصة بـ: “الجري وراء المستحيل”، وأرسلها إلى صحيفة الأدب.
وبعد أيام نشرت الصحيفة القصة مقدمة لها بأن كاتبها أديب مرموق له مكانته السامية في الأدب ومنزلته الرفيعة في فنونه، وقد آثر أن يتحف هذه الصحيفة بقصة أدبية رمزية رائعة.
ثم ساقت الصحيفة القصة وعقبت عليها بتحليل زعمت أنه لفك بعض رموزها، قائلة: “هذه القصة مشبعة بالرموز حتى يكاد لا يخلو سطر منها من رموز وإشارات خفية تحتاج إلى عميق التأمل لإدراك مقصود كاتبها، وهذه القصة تمثل الكينونة الإنسانية التي تفر هاربة من الصيرورة فتقع في أمور تؤدي للحيلولة دون المآل المعقود، ثم تعود النفس مجددا بصورة ميتافيزيقية لا شعورية لصنع مادة سطحية جديدة في نفس الذات في حالة من الدور أبد الدهر، ومن وهنا نستشف عبقرية الاسم الذي اختاره كاتب هذه القصة وهو معذب الآفاق، فهو دائم الفرار من أفق إلى أفق، ومع ذلك يجد العذاب ينتظره في كل مرة يفر فيها ويفر منها، ونلمح رمزا آخر في القصة عند ذكره الكوخ العجيب أو خيمة الأعرابي؛ فالأول يرمز إلى المستحيل الذي لا وجود له إلا في الخيال ولو وجد فهو قشرة رقيقة لأعظم الآلام المنبثقة من تمازج القوى الجسمانية مع القوى النفسانية.
إن الثياب المبللة رمز دقيق جدا؛ فهي تدل على أن الثياب كماليات لا ضروريات، ويمكن الاستغناء عنها لمجرد تبللها، والثياب هنا مثل الأفكار البالية المخالفة للتطور الإنساني والحضارة العظيمة فلا بد من الاستغناء عنها لأنها دخيلة على جوهر الإنسان الحقيقي.
وختاما: فهذه قصة رمزية حداثية تنويرية تقدمية تصحيحية عميقة، ولأنها ضد الموروثات القديمة التي نحاربها، فهي مؤهلة لأن ترشح للفوز بإحدى الجوائز العالمية، ونحن ندعو الكاتب لأن ينضم كعضو عامل للنادي الأدبي التابع للمنظمة، متكفلين له بكافة المستلزمات التي تعينه في ثورته على التخلف والرجعية”.
أخذ سعيد يقرأ باستغراب شديد تحليل ما سطره من هذيان، فهذه التحليلات لم تطرق باب فكره قط، ولم تُلم بخياله أبدا، ثم أغمض عينيه وتبسم قائلا: لقد عرفت الآن كيف يُصنع الحمقى، وكيف تطلق الألقاب الكبيرة الضخمة على السفلة والرعاع والخونة.
انتهت.
للمزيد من مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا
لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا