مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟ – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٨ – شوال ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩⁩

الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

* مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟ سُؤالٌ يَحْتاجُ إِلى وَقْفَةِ تَأَمُّلٍ وَمُحَاسَبَةٍ؛ فَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتْرُكُوا طَاعَةَ الْجَبَّارِ مَعَ غُرُوبِ شَمْسِ رَمَضَانَ! بَلِ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ بَعْدَ رَمَضَانَ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ وَشَفَقَةٍ مِنْ أَنْ تُرْفَعَ أَعْمَالُهُمُ فَلا تُقْبَلُ، فَهُمْ يَرْجُونَ اللهَ وَيَدْعُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، وَلَقّدْ كَانَ السَّلفُ الصّالِحُ يَجْتهدُونَ فِي إِكْمَالِ الْعَمَلِ وَإتْمامِهِ وَإتْقَانِهِ ثُمَّ يَهْتَمُّونَ بِقَبُولِهِ، وَيَخافُونَ مِنْ رَدِّهِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سَأَلْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: “لَا، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا تُقْبَلَ مِنْهُمْ، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]».

* وجاءت الآثار أن السلف الصالح كانوا يسألون الله ستة شهور أن يبلغهم رمضان ثم يسألون الله ستة شهور أخرى أن يتقبل منهم رمضان.

* وجدير بالمؤمن الذي ذاق حلاوة القرب من الله تعالى وتقلّب في مقامات الطاعات بين فرائض ونوافل من صيام وصلاة وقيام وقراءة للقرآن ودعاء وذكر وغيرها من العبادات -جدير بذلك المؤمن وحريّ به- أن يداوم على طاعة الله بعد رمضان، ولا يترك ذلك النور الذي قُذِفَ في قلبه فشعر بلذة الطاعة والعبادة والقيام للّه.

 

* وإن الاستمرار على الطاعة من علامات قبَول الطاعة، فمن أراد أن تُقبلَ منه الطاعات التي قام بها في رمضان فليقم بجنسها بعد رمضان، والله يختص برحمته من يشاء، قال بعض السلف: “ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى؛ كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة على رد الحسنة وعدم قبولها”.

* ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الطاعات يتعاقب بعضها بعضاً، ليبقى المسلم في اتصال دائم بربه وليمتثل قول الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

* ومن سعة رحمة الله وفضله أن شرع لنا بعد رمضان عبادات من جنس عبادات رمضان وغيرها، فبعد صيام رمضان عبادة العيد وصلاتها وإحياء شعيرتها من إظهار الفرح والسرور ثم صيام ستة أيام من شوال وصيام الأيام البيض من كل شهر قمري، وما إن ينتهي المسلمون من ركن الصيام حتى يستقبلوا ركناً آخر من أركان الدين وهو الركن الخامس حجّ بيت الله الحرام، وقبل موسم الحج تمر بنا أفضل أيام الدنيا إنها عشر ذي الحجة وما أودع الله فيها من خيرات ورحمات.

* من عوامل الثبات على العبادة بعد رمضان:

1 – أن نعمل بما علمنا، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا).

2 – أن نستمر بقراءة القرآن وتلاوته مع تدبر معانيه وتطبيق أحكامه، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).

قال ابن القيم رحمه الله: “تدبر القرآن أصل صلاح القلوب”.

 

3 – قراءة سير الصالحين وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ).

4 – الدعاء الدعاء واللجوء إلى الله أن يثبتنا على دينه، قال تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا).

وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».

* العهد مع الله عظيم والحبل المتصل بالله متين، ولا يحله إلا من كان في قلبه مرض وفي قصده دخل، وقد صور الله من تكون هذه سيرته بقوله عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 92].

لقد ضرب الله مثلاً امرأة ماهرة، تنسج وتحكم أجمل نسج، وأبدع لباس، وتجتهد فيه أيما اجتهاد، حتى إذا رآه الناظر وجد فيه حلة ترتضيها الأنفس وتعطي فيها أجزل العطايا، لكن هذه المرأة قد بلغ من حمقها أنها في آخر نهارها بدلاً من أن تبيعه، أو حتى تلبسه تجملاً، أو تعطيه لغيرها منحة، ذهبت تنقضها من بعد إحكام تفكها خيطاً خيطاً، لتبلي محاسنها وتبخس ثمنها، لتعود فيها كما بدأت.

وهذا عين المماثلة ودقة المشابهة فيمن كان مع الله في رمضان تالياً لكتابه قائما بأمره متهجداً ذاكراً له ليلاً ونهاراَ، ومنفقاً من ماله سراً وجهاراً، فلما اكتمل العقد والعهد مع الله نكثه بعد رمضان وكأن عهداً لم يكن وميثاقاً لم يبرم.

* أخي الحبيب… رمضان سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، فمن كان محسناً فليحمد لله وليسأل الله القبول فإن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن كان مسيئاً فليتب إلى الله فالعذر قبل الموت مقبول والله يحب التوابين، نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ما سلف من الزلل وأن يوفقنا وإياكم للتوبة النصوح قبل حلول الأجل.

* سائلين المولى عزّ وجلّ أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، وأن يستخدمنا في طاعته ومحابه ومرضاته، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصلاتنا ودعاءنا، اللهم شفع الصيام والقيام فينا ولا تضرب بذلك وجوهنا يوم نلقاك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله ربّ العالمين. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى