معاملة مالية شائعة (٤)
الدكتور إبراهيم شاشو
شاع من المعاملات بين التجار صورة قريبة من المعاملة السابقة (٣) وهي تجري في السوق المحلية خارج البورصة، وتقوم هذه المعاملة على أن يتفق البائع والمشتري على تحديد سعر البضاعة المشتراة بناء على سعر السوق أو سعر الافتتاح لهذه البضاعة في نفس اليوم أو في اليوم التالي، وقد يتفق المتعاقدان على أن يكون السعر هو سعر الافتتاح في الغد، وكذلك قد يكون الاتفاق على تحديد السعر بسعر الإغلاق، وهذه المعاملة تحصل بين التجار في أكثر من مهنة، كما تحصل بين الصرافين.
هذه المعاملة تتضمن البيع مع جهالة الثمن وقت التعاقد، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط معلومية الثمن عند التعاقد علماً ينفي أيَّ جهالة في جنسه ومقداره، وهذه الجهالة في سعر البضاعة جهالة فاحشة قد تؤدي إلى المنازعة بين الطرفين، فكل من البائع والمشتري لا يعلم مقدار السعر وقت التعاقد ولا مقدار السعر وقت افتتاح السوق أو وقت الإغلاق، فقد يكون سعر السوق وقت التعاقد أكثر أو أقل مما توقعه العاقدان فيختل أساس الرضا في إبرام العقد، كما يفحش الغرر ويزداد عند الاتفاق على تحديد سعر البضاعة بسعر الافتتاح أو الإغلاق، والمدة هنا وإن كانت يسيرة وهي عبارة عن ساعات قليلة، لكن تغير الأسعار في الأسواق لا يمكن ضبطه، واضطراب الأسعار أمر متوقع، فحصول انخفاض أو ارتفاع كبيرين في زمن قصير أمر غير بعيد، مما يولّد غرراً فاحشاً يفسد العقود ويؤثر في صحة المعاوضات المالية في السوق.
قال ابن قدامة في الكافي: (ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن لأنه أحد العوضين، فيشترط العلم به كالمبيع، ورأس مال السلم. وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد معين انصرف إليه، وإن لم يكن فيه نقد معين لم يصح لجهالته، وإن باعه سلعة برقمها، أو بما باع به فلان وهما لا يعلمان ذلك أو أحدهما أو بما ينقطع به السعر لم يصح؛ لأنه مجهول).
وكذلك لا يصح تخريج هذه المعاملة على مسألة البيع على ما ينقطع عليه السعر التي أجازها الإمام أحمد في رواية عنه وصححها شيخ الإسلام ابن تيمية خلافاً لجمهور الفقهاء، فقد روي عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في وقت معين من دون تحديد الثمن وقت العقد، وذلك لتعارف الناس وتعاملهم بهذا البيع في كل عصر ومصر، والمتتبع لنصوص المجيزين لهذا البيع (الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم) حول هذه المسألة يجد ضابطين لصحة هذه المعاملة.
أحدهما: أن المراد بما ينقطع عليه السعر في هذه الرواية هو سعر السوق وقت إجراء البيع لا أيَّ سعر بعده في المستقبل.
إذ إن الغرر يسير جدًّا إذا اتفق العاقدان على البيع بما ينقطع عليه السعر ساعة البيع في السوق وهو ما يعبر عنه بالبيع بسعر المثل، أي بالسعر الذي يتبايع به الناس عادة في السوق وقت حصول التبايع، لا بما سينقطع عليه السعر في المستقبل ولو بعد ساعة أو ساعتين.
الثاني: أن تجويز البيع بما ينقطع عليه السعر كان مراعاة لحاجة الناس ومصالحهم في شراء حاجياتهم استجراراً من البقّال واللّحام والخبّاز بما يعرف ببيع الاستجرار، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “هذا عمل الناس في كل عصر ومصر، وهو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس…”
ففي مثل هذه البيوعات من استجرار السلع والاحتياجات يتساهل الشرع في عدم تحديد السعر وقت الشراء، كما هو الحال في بيع التعاطي دون إيجاب وقبول.
وخص ذلك بما يتعارف الناس على شرائه والتسامح في تحديد سعره تعويلاً على السعر الذي يبتاع به الناس عادة دون الدخول في المساومة.
فالسلعة هنا كثيرة التداول وقليلة الثمن، والجهالة في سعرها وقت الاستجرار هي جهالة يسيرة غير مؤثرة، واختلاف السعر عما يتوقعه المشتري وقت الشراء مغتفر عرفاً وعادة، فتكون جهالة السعر هنا غير مؤثرة طالما أن الجهالة تنتهي إلى حد غير مؤثر.
أمـا البيوع التي تجري في السوق والصفقات الكبيرة فحالها يختلف تماماً عن بيع الاستجرار الآنف ذكره، كما أن خطر هذه العقود عظيم، وجهالة السعر فيها قد يفضي إلى اختلال الرضا وحصول المنازعة، مما يستلزم معرفة الثمن وقت التعاقد وتراضي الطرفين عليه دون أي تأجيل، والله تعالى أعلم.
الدكتور إبراهيم شاشو
@imshasho