لماذا يمكن أن تكون الأحزاب الانفصالية الكردية خيارا روسيا بل وإيرانيا أيضا؟ – كتابات فكرية — مجلة بلاغ العدد ٣٩ – المحرم ١٤٤٤ هـ
لماذا يمكن أن تكون الأحزاب الانفصالية الكردية خيارا روسيا بل وإيرانيا أيضا؟
الأستاذ: حسين أبو عمر
لعل البعض سيستغرب من العنوان، ويستبعد إمكانية أن تكون الأحزاب الانفصالية الكردية المدعومة (أمريكيا، إسرائيليا، وأوروبيا) أن تكون مطلبا (روسيا، وإيرانيا) في نفس الوقت! وسيعدها من الإغراق في “نظرية المؤامرة”..
ولذلك، كان لا بد من توضيح أن منطلق هذا المقال الأساسي هو حقائق الجغرافية السياسية، وما تمليه على صانع القرار من سياسات، ومراقبة الأحداث التي تتوافق مع هذه الحقائق، وليس الغلو في “نظرية المؤامرة” أو “الأيديولوجية” أو “المخاوف” أو غيرها…
الجغرافيا السياسية هي العلم الذي يدرس تأثير الجغرافيا على السياسة، ودور الجغرافيا في طبع شخصية الدولة، وتحديد أهدافها وطموحاتها، وفي تأثير ذلك على علاقة الدولة بمحيطها الإقليمي والدولي، فهي المفسر لتحركات الدولة وسياساتها الخارجية..
* طموح تركيا الجيوساسي:
عند حديثه عن المناطق البرية القريبة من تركيا (البلقان والشرق الأوسط والقوقاز) في كتابه «العمق الاستراتيجي» قال أحمد داود أوغلو مبينا أهميتها بالنسبة لتركيا: “ويجب أن لا ننسى أن الثقل السياسي والاقتصادي والثقافي التركي في الساحة الدولية، سيتحدد وفقا لقوة تأثير تركيا في هذه المناطق القريبة”.
وفي معرض حديثه عن منطقة الخليج العربي وما تمثله من أهمية في طرق الاتصال (البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر بالمحيط الهندي) وبما تحتويه من موارد الطاقة، قال أحمد داود أوغلو عائبا السياسة التركية في السابق: “وكان ابتعاد تركيا عن التأثير في هذه المنطقة، بالرغم من قربها من الخليج، الذي يمتلك أهم موارد الطاقة في العالم، أهم نقطة ضعف في ماضي السياسة الخارجية التركية”.
ثم بيّن كيف ينبغي أن تكون السياسة الخارجية التركية، حيث قال: “من الضروري تطوير سياسة غرب آسيوية، تشمل الحزام الممتد من الجمهوريات القوقازية الشمالية حتى الخليج؛ وتعتبر هذه السياسة ضرورية لتتمكن تركيا من أن تنضم علاقاتها مع آسيا الوسطى بشكل سليم”.
بل عد أحمد داود أوغلو اكتساب العمق الآسيوي خيارا حتميا لا بد منه لتركيا، قال: “في ظل هذا الوضع، لا بد لتركيا من اكتساب عمق آسيوي ضمن استراتيجية أورآسيوية دقيقة؛ ويعتبر العمق الآسيوي خيارا استراتيجيا حتميا”. إلى أن أعطى تصورا لحدود الطموح التركي، حيث قال: “بدأت تركيا، اعتبارا من 1992، بترديد عبارة “العالم التركي من الأدرياتيكي حتى سور الصين العظيم”، في تعبير عن تصور توسعي للعالم التركي”.
في الحقيقة، يُلاحظ المتابع بأن هذه الأفكار لم تبق حبيسة التنظير والكتب، بل حصلت لها تطبيقات عملية على أرض الواقع في كل الاتجاهات تقريبا. بعد أن حققت تركيا شيئا من النمو الاقتصادي، وحازت على بعض عوامل القوة العسكرية، بدأ الأتراك يسعون جادين في مد نفوذهم السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري من غرب أفريقيا إلى آسيا الوسطى، وأصبح لتركيا قواعد عسكرية في عدد من البلدان (النيجر، جيبوتي، ليبيا، الصومال، سوريا، العراق، قطر، الكويت، أذربيجان).
ولأن مصالح الدول، وسعيها في الوصول إلى الموارد، وطموحها في مد النفوذ وبسط الهيمنة، غالبا ما تتعارض، فلا بد من أن يؤدي ذلك إلى التنافس بينها، وأحيانا إلى الصراع.
* الموقف الروسي من التوسع التركي من منظور جيوسياسي:
هذه المناطق (من البلقان مرورا بالقوقاز إلى آسيا الوسطى) التي ما زالت تحاول تركيا الاستحواذ على نفوذ فيها، كانت ترى فيها روسيا (منذ روسيا القيصرية مرورا بالاتحاد السوفييتي إلى روسيا بوتين) مناطق حيوية لأمنها القومي.
بالإضافة إلى شيء آخر -مهم جدا- وهو أن أكبر نقطة ضعف في موقع روسيا الجغرافي هو عزلتها عن المياه الدافئة، وأنها حاولت مرارا الحصول على منفذ على المياه الدافئة؛ وقفت الدولة العثمانية لما يقارب القرنين من الزمن حائلا أمام هذا الحلم، ثم عملت أمريكا ومعها حلف الناتو على الحيلولة دون تحقق هذا الحلم على يد الاتحاد السوفييتي، واليوم “عالم تركي من الأدرياتيكي حتى سور الصين العظيم” سيحول مرة أخرى دون تحقق الحلم القديم المتجدد.
ولذلك، وفقا لهذه المعطيات الجيوساسية، وهذا التنافس على توسيع النفوذ، فإن وجود الأحزاب الانفصالية الكردية، أو حتى دولة كردية، تهدد وحدة تركيا، وتفصلها عن جنوب القوقاز، وتحول دون توسع تركيا باتجاه الشرق، لن يكون أمرا سيئا بالنسبة للروس، بل سيكون خيارا مرغوبا به. وهذا ما يفسر الإصرار الروسي على الإبقاء، وعلى تقديم الحماية للحزب الانفصالي الكردي في بعض مناطق شمال سوريا، وربما يتطور الأمر إلى ما هو خارج سوريا في المستقبل…
* الموقف الإيراني من التوسع التركي من منظور جيوسياسي:
أما إيران، التي ما زالت تسعى جاهدة -تحت مسمى تصدير الثورة- إلى توسيع نفوذها الجيوسياسي في المناطق المجاورة، فمن الطبيعي أن يحتدم التنافس بينها وتركيا على هذه المناطق، بل وأن يتحول إلى ما هو أشد من التنافس.
قصفت المليشيات العراقية التابعة لإيران القواعد العسكرية التركية في شمال العراق مرارا، بل طال القصف حتى القنصلية التركية في مدينة الموصل، وكانت هذه الميليشيات أثناء قصوفاتها تكرر تهديد “العثمانيين الحالمين”.
في كتابه «انتقام الجغرافيا» يقول روبرت كابلان: “فبدلا من أن تمتد من «البسفور إلى السند» أو من «النيل إلى جيحون» مثل بلاد فارس في عهد الأخمينيين، فإن الإمبراطورية البارثية تشكل رؤية أكثر واقعية لإيران الكبرى في القرن الحادي والعشرين، وهذا بالضرورة ليس أمرا سيئا”. والامبراطورية البارثية هذه يقول عنها: “امتدت مملكتهم عموما من سوريا والعراق إلى وسط أفغانستان وباكستان، بما في ذلك أرمينيا وتركمانستان”. بالمناسبة، روبرت كابلان هذا، الذي يعتبر إيران كبرى تمتد من سوريا إلى وسط أفغانستان وباكستان ليس أمرا سيئا، هو صحفي أمريكي متصهين، كان قد خدم في الجيش الإسرائيلي.
والأمر بالنسبة لإيران يتعدى مرحلة التنافس على مد النفوذ، فإيران ترى أن محصلة الطموح والسعي التركي في توسيع النفوذ ستكون تطويقا استراتيجيا لها، إذ سيحيط النفوذ التركي بغالب حدودها البرية، ويعزلها عن الاتصال البري بدول الجوار؛ ولذلك كثرت تصريحات -بل وتهديدات- أصحاب القرار الإيرانيين عن أنهم لن يسمحوا لأحد أن يقطع الحدود بينهم وبين أرمينيا.
في ظل هذا الواقع المعقد من التنافس الجيوساسي، بل والتاريخي، وتنامي قوة تركيا وطموحها في لعب دور إقليمي أكبر، فإن وجود أحزاب انفصالية كردية، تستنزف تركيا، وتحول بينها وبين توسيع نفوذها باتجاه الشرق والشمال، سيكون بالنسبة لصانع القرار الإيراني أخف ضررا، من دولة تركية تحيط بإيران من معظم الجهات، حتى وإن كانت هذه الأحزاب الانفصالية تهدد إيران نفسها.
وليس سرًّا أن المليشيات العراقية التابعة لإيران، التي ما زالت تقصف القواعد التركية، على تنسيق عال مع حزب العمال الكردستاني في سنجار، حتى إنه خرجت عدة تقارير غربية تشير إلى هذا التنسيق بين الطرفين لردع تركيا؛ كان من ضمنها تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) يتحدث عن هذا التنسيق.
لتحميل نسخة BDF من مجلة بلاغ اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا