المشتاقون إلى الموت من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد للشيخ أبو شعيب طلحة المسير

المشتاقون إلى الموت[1]

روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ».

في هذا الزمان الذي استوطن الذل فيه قلوب كثير من الناس، وملك عليهم أمرهم، فأصبحوا بسوء هديه يقتدون، وعلى قبح منواله يسيرون، نحتاج إلى أن نتذاكر بعض معاني العزة التي حفل بها ديننا الحنيف، عسى أن ينفُضَ البعض عن جبينه عار الذل الذي تسربل به الكثيرون.

وهذا الحديث الشريف نص من نصوص شريفة لا تكاد تحصى، تنتظم جميعها في باب الحث على الجهاد، هذا الجهاد الذي يستخفي الكثيرون الآن بالحديث عنه، وتحذف آياته وأحاديثه من مناهج التعليم ومقررات الدراسة!!

ولكن سيظل في الأمة -رغم كيد العدا- مَن ملأ الحديث عن الجهاد كيانه، وهز بالشوق إليه أركانه، وخفق بالتفكر فيه جنانه.

سيظل الجهاد -رغم حقد الحاقدين، وفجر الكافرين والمنافقين- خفاقة راياته، قوية صيحاته، مُرعِبة صولاته، متتابعة جولاته.

سيظل سيف الحق مصلتًا فوق رؤوس الطغاة المستكبرين، فلا انتصبت لهم قامة إلا قصمها، ولا دانت لهم أمة إلا قهرها، ولا اجتمعت لهم قوة إلا فَلَّها، وسيظلون دهرهم مهزومين مدحورين، أذلاء مغلوبين.

قال ابن تيمية عن الجهاد: (لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره، في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة)[2].

– هذا الحديث الشريف إنشائي اللفظ، ولكنه طلبي المعنى؛ فهو يخبر المسلمين بما فيه الخير لهم في معاشهم؛ كي يتنافس المتنافسون؛ للتمنع في حصون العزة الشامخة، ويتسابق المتسابقون؛ للترفل في حُلل المجد السابغة، ويتقدم المتقدمون؛ للتوغل في صفوف الأعادي الشانئة.

 

* «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ»:

فإلى من يطلب العيش الهني، والرزق الوفي، هاك الطريق، فحي هلًا إن كنت ذا همة:

فَتَىً لاَ يُريدُ الْعِزَّ إِلَّا مِنَ التُّقَى          وَلَا الرِّزْقَ إِلاَّ مِنْ قَناً وَسُيُوفِ[3]

وليست خيرية المعاش هذه قاصرة على زمان أو مكان؛ بل هي خيرية تعم الحياة الدنيا بأسرها، وتنتقل مع صاحبها لينعم بها في جنان الخلد؛ فقد بشر الله جل وعلا في القرآن الكريم عباده المجاهدين بألوان من نعيم الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[4].

وكذلك بشر النبي صلى الله عليه وسلم المجاهدين بخيري الدنيا والآخرة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري»[5]، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»[6]، فما أهنأ المجاهدين الذين أشهروا أسلحتهم عالية خفاقة، فأظلتهم رماحهم وسيوفهم، إنهم يتقلبون بين رزق في الدنيا عميم، وجنة في الآخرة ونعيم مقيم.

وخيرية المعاش في الدنيا، تشمل أنواعًا؛ منها:

أ- عزة المؤمنين وشفاء صدورهم: فالجهاد سبيل عزة الأمة وكرامتها، وقهر الأعداء، وإغاظتهم، والتنكيل بهم، وشفاء الصدر من جرائمهم، وكل هذا من النعيم الذي تسعى إليه كل أمة مسلمة، اصطفت خيرة بنيها؛ ليصرفوا همتهم في جهاد الكفار، وليبذلوا جهدهم في النكاية فيهم، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[7].

ب- الرزق الوفير، والغُنم الكبير: وذلك أن الله جل وعلا امتن على هذه الأمة بأن أباح لها الغنائم، قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾[8]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي؛ كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي،…الحديث»[9].

وقد جعل الله جل وعلا كسب الغنائم خيرًا للمجاهد، وخيرًا للأمة جمعاء، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[10]، قال السعدي: (وأما هذا الخمس، فيقسم خمسة أسهم؛ سهم لله ولرسوله، يصرف في مصالح المسلمين العامة، من غير تعيين لمصلحة؛ لأن الله جعله له ولرسوله، والله ورسوله غنيان عنه، فعلم أنه لعباد الله، فإذا لم يعين الله له مصرفًا دل على أن مصرفه للمصالح العامة. والخمس الثاني: لذي القربى، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وأضافه الله إلى القرابة دليلًا على أن العلة فيه مجرد القرابة، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم. والخمس الثالث لليتامى، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار، جعل الله لهم خمس الخمس رحمة بهم؛ حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فقد من يقوم بمصالحهم. والخمس الرابع للمساكين، أي: المحتاجين الفقراء من صغار وكبار، ذكور وإناث. والخمس الخامس لابن السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده)[11].

 

* «رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ»:

ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصفات التي تحقق هذه الخيرية في المعاش، وأول هذه الصفات أنه رجل، وكلمة رجل تحمل في طياتها معان؛ منها:

أ- جهاد الرجل بمفرده: كلمة رجل كلمة مفردة، وهذه اللفظة المفردة يقابلها لفظتان من ألفاظ الجمع، وهما كلمة الناس وكلمة لهم، في قوله صلى الله عليه وسلم في أول الحديث: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ»، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: رجال ممسكون بأعنة فرسهم..، وفي هذا حث للمرء على أن يبادر لتحصيل هذا الفضل، دون أن يبرر قعوده بتخاذل هذا أو نكوص ذاك؛ متذكرًا قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾[12].

ومن أبرز الأمثلة على مبادرة الرجل للجهاد ما فعله أبو بصير رضي الله عنه؛ فقد كان من بنود صلح الحديبية أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش من جاء منهم مهاجرًا، وقد قَبِل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الشرط؛ لأن الله جل وعلا أعلمه أن هذا سيعقبه الخير، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا»[13]، وقد روى البخاري قصة أبي بصير بطولها، فقال: «فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا. فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها؛ فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم»[14].

والأكمل في الجهاد أن يكون مع جماعة وإمام إذا تيسر ذلك، ولكن إن لم يتيسر ذلك؛ لفقد الإمام، أو تضييعه للجهاد، أو تخاذلت الجماعة، أو ما شابه ذلك، عاد الأمر بالجهاد إلى عموم الأمة؛ بحيث يبذل القادر جهده، ويطيع أمر ربه جل وعلا، قال ابن قدامة: (فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره، وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع، قال القاضي: ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إمام احتياطًا للفروج)[15]، وقال الماوردي: (الذي يلزم من فرض الجهاد شيئان؛ أحدهما: كف العدو عن بلاد الإسلام أن يتخطفها؛ لينتشر المسلمون فيها آمنين على نفوسهم وأموالهم…، والثاني: أن يطلب المسلمون بلاد المشركين ليقاتلوهم على الدين؛ حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن لم يسلموا…، ولا يجوز للإمام وكافة المسلمين أن يقتصروا في الجهاد على أحد هذين الأمرين حتى يجمعوا بينهما؛ فيذبوا عن بلاد الإسلام، ويقاتلوا على بلاد الشرك، فإن وقع الاقتصار على أحدهما، حُرِّجَ أهلُ الجهاد؛ لإخلالهم بفرض الكفاية)[16]، وقد نقل الشيخ عبد الرحمن القاسم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن قوله: (بأي كتاب، أم بأية حجة، أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين؛ والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر؛ من ذلك عموم الأمر بالجهاد، والترغيب فيه، والوعيد في تركه…، وكل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله، وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إمامًا إلا بالجهاد)[17].

ب- جهاد المرأة والطفل: وكلمة رجل تدل كذلك على أحد نوعي الإنسان وهو الذكر، وتدل على الفتوة، وهذا هو المراد في هذا الحديث؛ لأنه يصف مَن أعدَّ نفسه للقتال أنى وقع في مشرق أو مغرب، وهذا لا يتأتى من المرأة والطفل؛ فالأصل أن المرأة والطفل لا يجب عليهما الجهاد، قال الشافعي: (لم أعلم فيه مخالفًا من أهل العلم)[18]. ولكن يجوز لهما المشاركة مع جيوش المسلمين بما يستطيعانه، فعن الربيع بنت معوذ، قالت: «كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة»[19].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر. قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك»[20].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «حدثتني أم حرام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا في بيتها، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال: عجبت من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة. فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت معهم. ثم نام، فاستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا، قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فيقول: أنت من الأولين. فتزوج بها عبادة بن الصامت، فخرج بها إلى الغزو، فلما رجعت قربت دابة لتركبها، فوقعت فاندقت عنقها»[21].

وهذا الجهاد للمرأة مقصور على ما يناسب ضعفها، ويحفظ أمرها، ويحقق المقصود، بلا نفير عام منهن، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور»[22].

أما عند اشتداد الضرورة في جهاد الدفع، فيتعين على المرأة الجهاد إن استطاعت أن تدفع العدو، قال الكاساني: (إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد فهو فرض عين، يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه…، فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل، فبقي فرضًا على الكل عينًا، بمنزلة الصوم والصلاة، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها)[23].

 

* «مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»:

فهو استجاب لأمر الله جل وعلا القائل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[24].

ووصفه بأنه ممسك بعنان فرسه يدل على لزومه الإمساك بما يمكِّنه من قيادة فرسه، فهو لطول جهاده على فرسه ولكثرة تعهده، أصبح كأنه ملازم لفرسه ليل نهار.

ويا فوز هذا الرجل الممسك بعنان فرسه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسًا في سبيل الله، إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة»[25]، فما أكل فرسه ولا شرب، ولا تروث ولا بال، إلا جازاه الله ثوابًا من عنده ورضوانًا.

وإذا ذُكر الخيل ذُكر معه الخير، فهما متلازمان؛ كما في هذا الحديث: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وكما في حديث عروة البارقي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر، والمغنم»[26].

وقد أخلص هذا الرجل نيته لله جل وعلا، فكان يبتغي بعنايته بفرسه وجه الله جل وعلا، لا يبتغي دنيا يصيبها، ولا يستعلي على المسلمين بعدته وعتاده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة؛ فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر؛ فالرجل يتخذها في سبيل الله، ويعدها له، فلا تُغِّيب شيئًا في بطونها إلا كتب الله له أجرًا…، وأما الذي هي له ستر؛ فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها، في عسرها ويسرها، وأما الذي عليه وزر؛ فالذي يتخذها أشرًا وبطرًا وبذخًا ورياء الناس»[27].

 

* «يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ»:

وما أنبل هذا الفارس وأشجعه، فهو وإن أعد الخيل السريعة النجيبة سلسة القياد، إلا أنه مع ذلك قد جمع في نفسه وفرسه كل ما يوصله لبغيته بأسرع وقت، سرعة تفوق كل سرعة معتادة.

إنه قد قطع كل العوائد التي تشغله، والعلائق التي تحجزه، والعوائق التي تصرفه، حتى يصل إلى بغيته، فلو سابق الطير لسبقها، ولو رام الذرى الشاهقات لصعدها، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[28].

لم يتدثر بالشُّبه الواهية، والأعذار الزائفة، والأخبار المرجفة، والحيل الماكرة، والأماني الكاذبة، فِعل كل رعديد جبان، ساقط الهمة، واهن العزيمة؛ كالمنافقين الذين قال الله جل وعلا فيهم: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾[29]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾[30].

كيف لا يكون هذا الفارس بهذه الهمة والبطولة، وأسوته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي في عنقه السيف، وهو يقول:لم تراعوا لم تراعوا»[31]، قال النووي: (وفيه فوائد؛ منها: بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم، من شدة عجلته في الخروج إلى العدو، قبل الناس كلهم؛ بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس)[32].

وإن يعجب المرء لهذا الرجل الذي يطير على ظهر فرسه، فليزدد عجبه من فروسية هذا البطل الهمام؛ حيث تملك زمام فرسه، وأحكم قيادته، فلم تسقطه سرعة السير ولا شدته؛ بل قد اصطحب عُدة القتال وأدوات الحرب، وأخذ ما يحتاجه من طعام وشراب وكسوة؛ فلم يغفل عن فرسه، ولا عن نفسه، ولا عن سلاحه، ولا عن زاده وزاد فرسه.

والفروسية الحقة تحتاج إلى فارس ذي مهارة ودربة، وتحتاج كذلك إلى عناية بالغة بالخيل، ومعرفة بوسائل ترويضها وأساليب تغذيتها؛ ولذلك لا يتصف بالفروسية إلا القليل من الأبطال، ولطالما سقط مِن على ظهور الخيل مَن تقحم الميدان بلا خبرة تكفيه، أو تقدم للنزال على فرس معيب لا يغنيه، ومن عرف ذلك لم يعجب إذا علم أن الإسلام جعل للفارس المجاهد الذي اصطحب فرسه إلى الجهاد ثلاثة أسهم من الغنيمة، وجعل للمجاهد على رجله بلا فرس سهمًا واحدًا منها، روى البخاري في صحيحه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا» ثم قال البخاري: (فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم)[33].

* «كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ»:

إن الشغل الشاغل لهذا الفارس، والعمل الدءوب الذي انقطع له، والمهمة السامية التي سار إليها، هي تتبع أماكن الخطر، ومواطن النزال المحتدم، فهو دومًا كذلك، هكذا كان ماضيه، وهذا حاضره ومستقبله، يرهف أذنه، ويصغي سمعه؛ متحسسًا أخبار النزال والقتال؛ هنا أو هناك أو هنالك، حتى إذا سمع عن ملمة نزلت، أو فاجعة حلت، أو صيحة أو صرخة، أو هيعة أو فزعة، قال: أنا لها، وسبق إلى الصوت سبقًا، فلم يؤخره اعتراض نهر ولا بحر، ولا سهل ولا وعر، ولا واد ولا جبل، لا يعرف حدودًا مصطنعة، ولا إجراءات خرقاء بالية.

وإذا حضر الوغى، وتقحم الصعاب، لم يتشاغل عن إخوانه، ولا أصمه صخب الأصوات عند القتال؛ فتراه يسعف ذا بالميمنة، ويدفع عن ذا بالميسرة، ويشد على العدو بالمقدمة، ويسد خرقًا بالمؤخرة، عنده شجاعة وبطولة قل نظيرهما، “قد لانت له أعطاف الأمور، وعنت له رقابها، وأمكنته من قيادها، واستسلمت إليه بأعنتها، وألقت إليه مقاليدها”[34].

ومن أراد أن يعرف كيف يطير هذا الرجل إلى مواطن الهيعات والفزعات إذا سمع بها، فلينظر إلى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، الذي أقدم وحده ليستنقذ إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: «خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قَرد، قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أُخِذت لقاحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مَن أخذها؟ قال: غطفان، قال: فصرخت ثلاث صرخات، يا صباحاه. قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قَرد، وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميًا، وأقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرُّضع، فأرتجز، حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة»[35].

 * «يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ»:

إن هذا الفارس الذي تقحم الأخطار، وخاض الصعاب والأهوال، يتطلب القتل، ويبحث عن الموت، ولكنه قتل يرضي الله جل وعلا، وموت يستشفع به عند ربه سبحانه وتعالى.

وعموم القتل يحمل معان؛ منها: قتله لمن شرع الله قتله من الكفار، ومقتله على يد الأعداء الذين شرع الله قتالهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾[36].

أ- قتل من شرع الله قتله من الكفار: وهذا هدف من أهداف الجهاد، أن نقصم ظهور قوى الكفر والعناد، وأن نقطع دابر كيدهم ومكرهم، وأن نذيقهم الذل والهوان، وليست المعركة مكانًا للحنان الباهت والشفقة المفتعلة على هؤلاء الكفرة المجرمين؛ قال تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾[37].

فأبطال المسلمين يقتلون من أمر الله جل وعلا بقتلهم، ويتسارعون إلى الفتك بهم، ودق أعناقهم، وجز رقابهم، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾[38]، وقال جل وعلا: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾[39]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾[40]، وقال تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾[41].

بل إن هذا القتل هو بأمر الله جل وعلا، وعونه، ومدده، وما المجاهد إلا سوط عذاب حاق بهؤلاء القوم المجرمين، قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[42].

ب- طلب القتل والشهادة في سبيل الله: وهذه أمنية من أسمى أماني المؤمن، يسعى لها سعيًا حثيثًا، ويتطلبها، ويتشوق لها، متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» [43].

لسان حال هذا المؤمن:

وَأَلزمُ أَطرَافَ الثُّغُوْرِ مُجَاهِدًا

 

  إِذَا هَيْعَةٌ ثَارَتْ فَأَوَّلُ نَافِرِ

 

لأَلْقَى حِمَامِي مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ

 

  بِسُمْرِ العَوَالِي وَالرِّقَاقِ البَوَاتِرِ

 

كِفَاحًا مَعَ الكُفَّارِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى

 

  وَأَكْرَمُ مَوْتٍ لِلْفتى قَتْلُ كَافِرِ

 

فَيَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْ حِمَامِي بِغَيْرِهَا

 

  وَلاَ تَجْعَلَنِّي مِنْ قَطِيْنِ المَقَابِرِ[44]

 

والباحث عن الشهادة المتطلب للقتل في سبيل الله، له شأنه في الجهاد عامة، وإذا حمي الوطيس، وسالت الدماء، وتطايرت الرقاب، خاصة، فلا تسل عند ذاك عن شأنه، فمن ذا تثبُت قدمه حتى يعلم خبره؟ فهذا أنس بن النضر غاب عن قتال بدر، «فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم، إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين. ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه»[45].

وهذا جليبيب رضي الله عنه، قاتل سبعة من المشركين فقتلهم وقتلوه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عليه وهو مقتول في أرض المعركة، ثم قال: «قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه»[46].

وهكذا يتطلب المجاهد القتل في سبيل الله، حتى إذا ناله، وحقق مراده، أنعم الله عليه بحياة أكمل وأتم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[47].

– وقد يقدر الله لعبده السلامة من القتل في المعركة، فيمضي عمره في ساحات الوغى، وأرض البطولات، يكتسب الأجر والمثوبة؛ وقد ينجو من قتل الكفار له ومع ذلك يقدر الله جل وعلا له موتًا في سبيله؛ كأن يصاب خطأ فيموت، كما وقع لعامر بن الأكوع في فتح خيبر؛ حيث كان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه، فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له لأجرين؛ إنه لجاهِد مجاهد»[48]، وجاهد مجاهد أي مجتهد في طاعة الله مجاهد في سبيله.

ومن طلب المنايا في سبيل الله، فلا حرج عليه مما يصيبه من بلاء يقدره الله عز وجل؛ سواء وقصته دابة، أم تردى من عل، أم أدركه الغرق، أم اجتاحه الطاعون، أم قضى عليه المرض، أم قتله الحر أو البرد، أم فاجأته المنية، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[49]، وقال جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[50] فيأتيه الموت، وهو فرح مستبشر بلقاء الله جل وعلا.

 

وختامًا: فإن الحديث عن الجهاد حديث شيق طويل، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غرائبه؛ إنه حديث يستكثر منه الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف؛ لأنه يلامس شغاف القلب، ويحرك كوامن النفس، ويبعث فيها الأمل المنشود والعزم المعقود…

ولكن هل بحلو الحديث تتحقق الأماني؟

وهل بالتلذذ ببطولات المجاهدين يتأتى النصر؟

أما سمعنا وأبصرنا الهيعات والفزعات؟

فأين مَن يمسك بعنان فرسه؟

وأين مَن يطير على متنه؟

وأين مَن يبتغي القتل والموت مظانه؟

تالله إن منهم بقية باقية، ظاهرة قائمة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله؛ لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»[51].

فأين نحن منهم؟ مَن الذي نصرهم؟ ومَن الذي خذلهم وخالفهم؟ ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[52].

فيا رب انصر المجاهدين في سبيلك، وامددهم بمدد من عندك، وانتقم من عدوك وعدوهم، يا رب العالمين.

 

([1]) كتبت سنة 1433هـ.

[2] السياسة الشرعية، لابن تيمية.

[3] من شعر ليلى بنت طريف، ترثي أخاها الوليد.

[4] سورة الصف: 10- 13.

[5] رواه البخاري في صحيحه.

[6] رواه البخاري في صحيحه.

[7] سورة التوبة: 14- 15.

[8] سورة الأنفال: 69.

[9] متفق عليه.

[10] الأنفال: 41.

[11] تفسير السعدي.

[12] سورة النساء: 84.

[13] رواه مسلم في صحيحه.

[14] رواه البخاري في صحيحه.

[15] المغني، لابن قدامة.

[16] الحاوي، للماوردي.

[17] الدرر السنية، لعبد الرحمن القاسم.

[18] الأم، للشافعي.

[19] رواه البخاري في صحيحه.

[20] رواه مسلم في صحيحه.

[21] متفق عليه.

[22] رواه البخاري في صحيحه.

[23] بدائع الصنائع، للكاساني.

[24] سورة الأنفال: 60.

[25] رواه البخاري في صحيحه.

[26] متفق عليه.

[27] رواه مسلم في صحيحه.

[28] سورة الطلاق: 3.

[29] سورة آل عمران: 167.

[30] سورة محمد: 20.

[31] متفق عليه.

[32] شرح النووي على مسلم.

[33] رواه البخاري في صحيحه.

[34] مقتبس من كتاب نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد، لإبراهيم اليازجي.

[35] متفق عليه.

[36] سورة التوبة: 111.

[37] سورة التوبة: 8.

[38] سورة الأنفال: 12.

[39] سورة محمد: 4.

[40] سورة التوبة: 5.

[41] سورة الأحزاب: 61.

[42] سورة الأنفال: 17.

[43] رواه البخاري في صحيحه

[44] من شعر ابن حزم الأندلسي.

[45] متفق عليه.

[46] رواه مسلم في صحيحه.

[47] سورة آل عمران: 169.

[48] متفق عليه.

[49] سورة آل عمران: 158.

[50] سورة الحج: 58.

[51] متفق عليه.

[52] سورة القيامة: 14- 15.

كتبها

أبو شعيب طلحة محمد المسير

لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد  bdf اضغط هنا 

للقرأة من المواقع تابع

مائة مقالة في الحركة والجهاد الشيخ أبو شعيب طلحة المسير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى