الظلم باسم الأحكام السلطانية / مقال من الركن الدعوي لمجلة بلاغ العدد الخامس عشر لشهر محرم 1442هـ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

 

 فإن من حفظ الدين وصيانة العلم تنزيه الشريعة الإسلامية عن البدع المحدثات التي يزينها الشيطان للناس محاولا صد الناس عن سبيل الله تعالى وتشويه صورة الإسلام.

 

 ومن تلك البدع التي ظهرت وكان لها أثر سيئ بدعة تسمية ظلم الناس والعدوان عليهم أحكاما سلطانية؛ حيث تقوم مجموعة من الناس بتزعيم شخص عليهم، ثم يقيم هذا الزعيم قضاء يوكله لمن يختارهم من المشايخ، ولكن هذا القضاء لا تُعرض عليه كل القضايا؛ فهناك أشخاص يصدر الأمر بسجنهم أو ضربهم أو قتلهم من زعيمهم هذا الذي يسمونه سلطانا، وهناك مجموعات أو فصائل تستباح دماؤها أو أموالها بناء على أمر ذاك الزعيم، وهذا السلطان يصدر تلك الأوامر بناء على ما تهواه نفسه بلا نظر في الأدلة والبينات وبلا سماع دفاع المتهم عن نفسه بل وعادة بلا علم شرعي عنده أصلا ولا لرجوع لأهل العلم، فإن اعترض معترض على هذا الظلم، قيل له: هذا حكم سلطاني، اختص به السلطان لا القضاء، وهو من الأحكام السلطانية المذكورة في كتب الفقه؛ وبتلك الطريقة البدعية أزهقت أرواح كثيرة، وحبس رجال أطهار، وسُرقت أموال معصومة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 * وهذا الفعل افتراء على الشرع وجناية على الناس وإفساد في الأرض، وبيان ذلك كما يلي:

 

 – أولا: أن الله جل وعلا أمر بالعدل:

 

 فالعدل والحكم بما أنزل الله تعالى واجب أوجبه الله سبحانه وأمر به ونهى عن مخالفته، قال جل وعلا: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وقال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، وقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

 

 بل إن الله تبارك وتعالى حذر أنبياءه صلوات الله عليهم وسلامه من خطورة اتباع الهوى في الحكم، فقال جل وعلا: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)، وقال سبحانه: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).

 

 – ثانيا: أن العدل له طرقه ووسائله الشرعية التي يجب اتباعها:

 

 فالعدل الذي أمر به الله جل وعلا هو ما أنزله سبحانه وشرعه في دينه الذي ارتضاه لنا وهو الإسلام، فالعادل يبحث عن حكم الله جل وعلا في الواقعة؛ لذا فهو يبذل وسعه في فهم أحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه وحقوقه وحقوق عباده، ويبذل وسعه في فهم الواقع وتصوره على حقيقته وإلحاقه بالحكم الذي يرضي الله جل وعلا، ولا يستقيم بذل الوسع في فهم أحكام الله تعالى وتصور الواقع على حقيقته إلا بتجرد القلب لله تعالى والرجوع لأهل العلم وسؤال أهل الذكر والمشورة واستعفاء المرء مما لم يحسنه وتفويض من يحسنه.. 

 

 ولذا اعتنى علماء الإسلام بشرح وتفصيل ما يؤدي للعدل سواء في تبيين الأحكام الشرعية أو في تنزيلها على الوقائع وسواء كان العدل بمعناه العام في الحياة كلها أم بمعناه الخاص في تصرفات الولاة والقضاة، بل والعدل في أنواع القضاء سواء دخل في المعنى الاصطلاحي للقضاء أم لم يدخل، كما قال ابن تيمية: “والقاضي اسم كل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطانا، أو نائبا، أو واليا؛ أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا. هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر”، واعتنوا بتفصيل العدل في كل جزئية من تلك العموميات، حتى ذكروا ما يلزم القاضي في خاصة نفسه وهيئة أعوانه ومجلس قضائه وسيرته مع المتخاصمين وتقريراته للبينات وإصدار الأحكام..

 

 * لذا فلا غرابة أن يكون التنصيص على أن اتباع عدل الإسلام هو الواجب المتعين على المسلم لا ما يهواه أي أحد ويظنه عدلا، قال ابن تيمية: “من استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة. وهذا هو الكفر، فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالا”.

 

 – ثالثا: تحري العدل أوجب على الولاة من غيرهم:

 

 الولايات تكليف واختبار وهي امتحان من الله جل وعلا لعباده لينظر كيف يعملون، وكلما عظمت الولاية كلما عظم الوجوب وكان العدل أوجب، والتزام أوامر الشرع في وسائل العدل ومقاصده آكد، قال صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ” متفق عليه.

 

 فإذا كان العلم والمشورة وبذل الوسع واجبا على القضاة فهو على السلطان أوجب؛ فالأصل في السلطان أنه عالم مجتهد رتبته أعلى من رتبة المختص بالقضاء، وما القاضي إلا نائب عنه؛ لذا ذكر الماوردي أن شرط السلطان ومن ينوب عنه في إمارة عامة: “العدالة على شروطها الجامعة والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام”.

 

 وقال القرافي: “الإمامة جزؤها القضاء والفتيا. ولهذا اشترط فيها من الشروط ما لم يشترط في القضاة والمفتين،… الإمامة لما عظم خطرها اشترط الشارع فيها ما لم يشترطه في غيرها، وما عز شيء وعلا شرفه إلا عز الوصول إليه، وكثرت القواطع دونه”.

 

 وقال العز بن عبد السلام: “يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها لقول الله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وإن كان هذا في حقوق اليتامى فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة”.

 

 – رابعا: ما خرج عن العدل من أفعال الولاة فهو جور وظلم:

 إذا خرجت أفعال الولاة عن العدل، فلم تكن قائمة على علم بالشرع وعلم بالواقع واجتهاد في تحصيل الحق فهي جور وظلم وباطل، ونسبتها لتحكيم الشريعة يدخل في قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، ولذا نص الفقهاء ليس على مجرد رد حكم الأمير إن لم يكن مبنيا على اجتهاد شرعي صحيح بل على ما هو أوسع من ذلك وهو رد فعله المصلحي إذا لم يراعي فيه مصلحة المسلمين، قال ابن عابدين: “إذا كان فعل الإمام مبنيا على مصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم ينفذ أمره شرعا إلا إذا وافقها، فإن خالفها لا ينفذ”.

 وإن الإسلام بريء من ظلم الطغاة الذين تسلطوا على الأمة فأمروا بسجن هذا وقتل ذاك بلا علم شرعي أصلا ولا رجوع لأهل العلم ولا نظر في تفاصيل الأمور ولا مراعاة لمصالح الأمة ولا سماع لدفاع المظلوم، بل وبلا ولاية أصلا لأكثرهم ولا سلطان!.

 

 وإن نسبة ذلك الظلم للإسلام ولتطبيق الشريعة هو كذب على الله وعلى دينه وعلى قضائه الشرعي وعلى الإسلام والمسلمين، وقد كان علماء الأمة يسمون الأشياء على حقيقتها ولا ينسبون ظلم الطغاة للأحكام السلطانية والقضاء الشرعي، ويصفون الطغاة بالأوصاف التي تليق بهم؛ كما كان يقول الذهبي في سيره عن أمثال هؤلاء: “كان ظلوما عسوفا..، كان ظلوما عاتيا..، كان ظلوما جبارا..، كان ظلوما متجبرا سفاكا للدماء..، كان طياشا ظلوما..”.

 

 = إن التصور الساذج لسلطات السلطان وأنه مفوض تفويضا تاما، فيأمر بالقبض على من يهوى القبض عليه، ثم يقول وهو يحتسي كأسا من الشراب الساخن أو البارد: اقتلوه، فيقتلوه، ثم يقول عن الآخر: أطلقوه، فيطلقوه..، هذا تصور يصدق على حكم طواغيت الكنيسة الذين يحلون ويحرمون بأهوائهم، ويصدق على طواغيت الحكم الفرعوني والديكتاتوري، ونسبته للشريعة كنسبة عبادة القبور ودعاء الأموات للإسلام.

 

 والحمد لله رب العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى