“أنزلهم على حكمك” تنزيه للشريعة وتصحيح للمسار – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٣٠

مجلة بلاغ العدد ٣٠ - ربيع الثاني ١٤٤٣ هـ⁩

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن الحكم بما أنزل الله تعالى والتحاكم إلى شرعه من أعظم واجبات الشريعة وأخص مقومات الإيمان، وقد تكرر الأمر بذلك والتأكيد عليه في القرآن الكريم بصيغ عديدة؛ منها:

– قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ).

– وقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

– وقوله سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

– وقوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

وهذا التخصيص والتنويه والتأكيد على مسألة فصل الخلاف بشرع الله جل وعلا يدل على عظم هذه المسألة وأهميتها وخطورة الزلل فيها، ويدل على أن المسلم وإن كان مطالبا بالتزام شرع الله في كل شؤونه فإن عليه التنبه والتركيز على مسألة الحكم القضائي وعلاقته بأصل الدين، فالطاعات والمعاصي ليست على درجة واحدة؛ بل هي تتفاوت منازلها بتفاوت صلتها بأصل الدين، والقضاء بشرع الله جل وعلا في الخلاف مرتبته عليا في مراتب الإيمان.

ولعظم مسألة الحكم بما أنزل الله والتقاضي إلى شرع الله جل وعلا فقد سد الإسلام الذرائع التي قد يتسلل منها الشيطان ليشوه هذا المفهوم العظيم، ومن ذلك التفريق بين حكم الله جل وعلا وبين اجتهاد المجتهد لإصابة حكم الله تعالى؛ فحكم الله تعالى قطعي فيه الحق المبين، أما اجتهاد المجتهد في الأمور التي تحتمل الاجتهاد والنظر فهو محاولة للوصول إلى حكم الله قد يوفق فيها المجتهد وقد يخطئ، ولذلك فإن ما صدر عن المجتهد في ذلك هو حكم المجتهد لا أنه قطعا حكم الله تعالى، فقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوصي أمير الجيش والسرية قائلا: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار» متفق عليه.

وفي الحديث أن سليمان بن داود عليه السلام سأل الله: «حكما يصادف حكمه» رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم بسند صحيح.

وعندما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة بقتل المقاتلة وسبي الذرية وقسمة الأموال، قال صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل» متفق عليه.

* ففي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» إشارات وفوائد مهمة تؤكد على تعظيم شعائر الله تعالى وتنزيه الشريعة وتصحيح المسار، ومن تلك الفوائد:

1 – التفرقة بين حكم الله وحكم المجتهد: قال ابن القيم المتوفى سنة 751 هـ، في إعلام الموقعين: “تأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب..، إذا اجتهد واستفرغ وسعه في معرفة الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد، وعفي له عن ما أخطأ به، وأثيب على اجتهاده، ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: إن الله حرم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا، وإن هذا هو حكم الله..، وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة؟! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل هذا حكم الله”.

2 – كراهية تسمية الاجتهاد المنضبط حكم الله تعالى: قال ابن بطال المتوفى سنة 449 هـ، في شرح البخاري: “كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النزول على حكم الله وحكم رسوله الذي هو الحق عنده، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة بأصلح ما حضرهم في الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله”.

3 – قول المجتهد في الأمور الخلافية مظنون قابل للمراجعة بخلاف حكم الشريعة: قال ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ، كما في مجموع الفتاوى: “العلماء المجتهدون رضي الله عنهم، للمصيب منهم أجران وللآخر أجر. وكل منهم مطيع لله بحسب استطاعته ولا يكلفه الله ما عجز عن علمه. ومع هذا فلا يَلزم الرسولَ صلى الله عليه وسلم قولُ غيره ولا يلزم ما جاء به من الشريعة شيء من الأقوال المحدثة؛ لا سيما إن كانت شنيعة. ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول صلى الله عليه وسلم من خطئهم وخطأ غيرهم. كما قال عبد الله بن مسعود في المفوضة: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. وكذلك روي عن الصديق في الكلالة..، كانوا أعلم بالله ورسوله وبما يجب من تعظيم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضيفوا إليه إلا ما علموه منه؛ وما أخطئوا فيه -وإن كانوا مجتهدين- قالوا: إن الله ورسوله بريئان منه”.

وقال عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب الشورى: “يستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم «فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» أن حكم الله في هذه الأمور مظنون وليس بمقطوع به، ألم تر أن الله عاتب رسوله والمؤمنين لقبولهم فداء الأسرى في بدر، وأخبرهم أن الحكمة والمصلحة كانت تقتضي قتل الأسرى في هذه الغزوة”.

4 – خطأ المجتهد لا يحيل الباطل حقا في الباطن: قال النووي المتوفى سنة 676 هـ، في شرح مسلم: “مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الإسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حراما”.

5 – إذا كان الصحابة منهيين عن إنزال أهل حصن على حكم الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يصحح لهم ويصوب، فكيف بمن بعدهم؟! قال المظهري الحنفي المتوفى سنة 727 هـ، في شرح المصابيح: “مع أن زمان النبي زمانُ الوحي لا يجوز للإمام أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله، فكيف يجوز بعد النبي لإمام أو لأمير جيش أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله على واحد من الأشياء المذكورة على التعيين؛ لأن أحدًا لا يعرف مراد الله تعالى، بل يشترط الإمام مع أهل القلعة النزول بما يقتضي إليه اجتهاده من الأشياء المذكورة”.

6 – لحرص العلماء على التفرقة بين حكم الله وحكم المجتهد عد سحنون [ولعل جمهور العلماء لا يوافقه على ذلك وإنما ذكرته لبيان عظم الأمر] أن من نزل من القلعة على حكم الله فإنه يرد إلى مأمنه ثانية؛ لأن القاضي قد يخطئ حكم الله: “قال سحنون: فإن جهل الإمام [أي جهل النهي عن إنزالهم على حكم الله] فأنزلهم على حكم الله، يعني إذا طلبوا ذلك فهي شبهة فليردّوا إلى مأمنهم” [أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن الطلاع، المتوفى سنة 497 هـ].

* إذا تبين هذا في حال الأئمة المجتهدين الصالحين المتقين، فإن من أعظم الصد عن سبيل الله تعالى جعل فعال أئمة الجور والظلمة المتسلطين ظلما وعدوانا على رقاب العباد هي شرع الله وحكمه، وجعل معارضة فسقهم وفجورهم معارضة للشريعة الإسلامية، ولِعظم جريمة نسبة فعال الطغاة إلى الإسلام ذكر بعض فقهاء الأحناف أن وصف الحاكم الظالم بأنه عادل كفر بالله جل وعلا، [وإن كانوا لا يوافقون على ذلك التكفير؛ لأن الأصل فيمن يفعل ذلك أنه متأول لم يرد المعنى الكفري]، قال الملا علي القاري المتوفى سنة 1014هـ، في منح الروض: “من قال لسلطان زماننا: عادل، فقد كفر؛ لأنه لا شك في جوره، والجور حرام، ومن فعل ما هو حرام بيقين استحلالا فقد كفر”.

والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسختك من العدد 30 من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لقراءة باقي المقالات اضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى