الزائغ – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٤

الأستاذ: غياث الحلبي

القصف مستمر بكثافة شديدة جدا منذ بضعة أيام، والشهداء تزداد أعدادهم بكثرة، والجرحى يعانون من نقص شديد في الاهتمام والعلاج بسبب كثرة أعدادهم وقلة من تبقى من الطواقم الطبية في البقعة المحررة في الجنوب.

قوات النظام تعاني من نقص شديد في المقاتلين لارتفاع أعداد القتلى والهلكى في صفوفها، ولولا اتباعها أسلوب المغول والتتر قصفا وحرقا وتدميرا لما استطاعت التقدم.

كانت المفاوضات بين الثوار والنظام من أجل خروج الثوار بأسرهم وسلاحهم الخفيف إلى الشمال.

توقف القصف، وبدأ الجميع مشغولا بتجهيز نفسه وأسرته مع حمل بعض الحاجيات شديدة الأهمية.

ارتفع الخوف الآن ليحل محله الحزن، الحزن على فراق الأرض التي تربوا في ربوعها، والسماء التي شبوا تحت سقفها، الديار قطعة من القلب، ومن ذا الذي يهون عليه أن يفارق قطعة من قلبه.

كان “عبدو” شاردا حزينا يفكر كيف أنه سيحرم بعد قليل من أرضه وبيته ودياره وكل شيء، لن تكتحل عيناه بعد اليوم برؤية قريته التي طالما جرى في أراضيها ولعب في مرابعها وشرب من آبارها واكتوى بشمسها وعب من هوائها وأحب أهلها وصادق فتيانها، كانت قريته كل شيء له غير أن فراقها هو خير على كل حال من الوقوع في قبضة العصابات الأسدية والتي ستسوقه إلى أفرع مظلمة منتنة.

وأثناء شرود “عبدو” اتصل به قريب له شبيح وعرض عليه أن يبقى في بلدته ولا يخرج منها؛ لأن “الرئيس” لسعة صدره ووفور خيره أصدر مرسوما يعفو فيه عن المتورطين الذين سيعملون مصالحة.

– ولكن أخشى أن يغدروا بي.

– لا، أنا ضامن أنه لن يصيبك مكروه، والمصالحة أمر شكلي، كل ما عليك هو أن توقع ورقة وتجيب عن بعض الأسئلة، ثم تعود إلى بيتك معززا مكرما لا يكلمك أحد، وهذا أفضل من أن تترك بيتك وأرضك لتجلس في مخيمات التهجير.

لامست كلمات الشبيح الأخيرة شغاف قلب عبدو؛ فهو شديد التعلق ببيته وأرضه، غير أنه ليس مطمئنا لوعود النظام.

– لكن، أقصد، يعني بصراحة أنا لا أثق بالنظام ووعوده، فقد غدر كثيرا قبل ذلك.

– يا أخي، دعك من النظام، هل تثق بي؟

– نعم.

– طيب، أنا أقول لك: لن يمسك أحد بسوء، فقط استضافة ربع ساعة سؤال وجواب، ثم يقال لك: “الله معك”.

– سأفكر.

– أنا أنتظر جوابك، وبقربي هنا العميد دياب، وقد ذكرت له قصتك، فقال لي: نحن أولاد بلد واحدة، والدولة بمثابة الأم للمواطنين، ولا توجد أم ترفض عودة أولادها، وقال لي: قل له: هو مرحب به أخا عزيزا بيننا، ونحن مستعدون لفتح صفحة جديدة ونسيان الماضي، وذلك من أجل الوطن، فاسمع مني ولا تعاند وتخسر كل شيء.

– سأرد لك جوابا غدا مساء.

– أخذ عبدو يقلب الفكرة في رأسه، فتارة يميل مع عقله الذي ينهاه عن ذلك، وطورا يميل مع هواه الذي يريد الخلود إلى الأرض.

شعر بدوار في رأسه لشده اضطرابه، فهو غير قادر على اتخاذ قرار يحسم المسألة، ربما يساعده على ذلك استشارة أحد رفاقه المقربين في الكتيبة، فليمض إلى المقر لعله يجده هناك، ومضى مسرعا إلى المقر، فوجد هناك صديقه المقرب زيدا.

– ماذا يا زيد؟ هل سنخرج من أرضنا؟

– سنعود، سنعود بإذن الله رغما عن آل الأسد، هكذا الحرب يوم لك ويوم عليك.

– طيب، وأرضنا وبيوتنا ورزقنا، سنتركه جميعه لكلاب الأسد.

– في سبيل الله، سيعوضنا الله خيرا منه، ثم ليس أمامنا خيار آخر، ماذا يمكننا أن نصنع؟

– نبقى هنا.

– سكت زيد لحظة من هول ما سمع، ثم قال: أنت تتكلم جادا، أم أصاب عقلك شيء.

– البارحة عرض علي قريب لي البقاء وتسوية الأمر مع النظام، وتعهد لي أن لا أصاب بمكروه.

– يبدو أنك جننت بالفعل، هل يوجد شخص عنده ذرة عقل يصدق كلام هؤلاء الملاعين، أنسيت عدد المرات التي غدر فيها النظام المجرم؟

أنسيت أنه نظام الكذب والدجل والمكر؟

ثم كيف ترضى لنفسك أن تضع يدك في يد من قتل أهلك، وانتهك عرضك، ودنس مقدساتك، وسفك دمك، وخرب ديارك، وهدم مساجدك، ومزق الناس أشلاء؟

أما لك دين يزجرك؟

أما لك عقل يردعك؟

– لعن الله الشيطان الذي وسوس لي، سأخرج معكم والعوض على الله.

– هذا هو الكلام الذي أحب سماعه.

عاد عبدو إلى بيته وقد حزم أمره واستقر رأيه على رفض البقاء.

اتصل به الشبيح مساء:

– خبرني يا حبيب، لا شك أنك قررت البقاء.

– لا، سأخرج ولن أبقى.

– لماذا؟

– لأني أخشى الغدر.

– ألم نتكلم البارحة في هذا الموضوع، وقلت لك: أنا ضامن.

– كيف سأواجه أهل القرية الذين قتل أبناؤهم معي.

– ما لك ولكلام الناس، اهتم بمصلحتك فقط، كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر، فكر في بيتك ومالك وأهلك.

– لست مطمئنا.

– رجعنا إلى الكلام نفسه، انتهينا، لا أريد سماع المزيد، توكل على الله، وابق، أنا لا مصلحة شخصية لي في الأمر ولا أريد غير مصلحتك.

عاد عبدو إلى حيرته واضطرابه وتردده، أيمضي أم يبقى؟ أيثق بالوعود أم يضرب بها عرض الحائط، أيكمل طريقا استشهد فيه عدد من أقاربه وأصدقائه أم ينتقل إلى عدوة قتلتهم؟

قوافل الخروج تسير ولا زال عبدو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، والشبيح يلح عليه ويؤكد له الأمان بأغلظ الأيمان وأوثق العهود، وأخذ جانب الهوى يشتد في نفسه ويقوى، والشيطان ينفث الوساوس في صدره ويخذله عن الخروج حتى انتهت القوافل وسارت مبتعدة.

 

وساقت عبدو قدماه إلى مركز التسوية والمصالحات، وهاله هناك التعامل الراقي والأسلوب الحسن الذي عومل به، ولم يدرك أن ذلك إنما كان بسبب آلات التصوير وأجهزة الإعلام التي تعمل ليل نهار من أجل إيقاع المزيد من الحمقى في فخاخ الأسد وشباكه.

وقَّع عبدو ورقة المصالحة وأجاب على بعض الأسئلة، ثم قيل له: “الله معك”.

ومضى عبدو إلى بيته سعيدا وظن أن الأمر انتهى عند ذلك الحد، حتى فوجئ بعد عشرة أيام باقتحام بيته ليلا ثم إهانته وضربه وتكبيله ووضع العصابة على عينيه، وسيق إلى مكان موحش كالمقبرة، مظلم كقلب الكافر، ضيق كصدر اللئيم، قذر كمجاري المياه، وما إن وطئت قدماه الأرض حتى انهالت السياط والقضبان والعصي على جسده حتى صار كالنصب، وإلى الآن كان يصبر نفسه ويقول: لا بد أن هناك خطأ ما سيكتشف ويطلق سراحه، لا يمكن أن يكون هذا عمدا، ربما هناك تشابه أسماء، أو جاءهم تقرير كيدي، أو لم تصلهم بعد أسماء الذين عملوا المصالحات.

بعد هذا الحفل الدموي رُمي به في مهجع مكتظ بالسجناء، وبعد أن جال بينهم بعينه أسقط في يده وانطفأ آخر قبس من الأمل لديه، فكثير من هؤلاء السجناء يعرفهم، إنهم ممن أجروا تسوية ومصالحة مع النظام.

بعد أيام استدعي عبدو للتحقيق، فشعر أن قلبه قد صار بين قدميه، ترى أي أهوال تنتظره هناك؟!

اجتذبته أيدي الزبانية، وطوال المسير من المهجع إلى غرفة التحقيق لم يبخلوا عليه بالصفع والركل والوكز واللكز والسب والشتم، وأخيرا وصل إلى غرفة التحقيق، فوقف على بابها وسمع صوت المحقق يأمر بنزع العصابة عن عينيه، ليجد عشرات المعذبين؛ بعضهم علق بالبلنكو، وبعضهم شبح من يده ورفع عن الأرض قرابة متر وأوقد غاز سفري تحت قدميه حتى أوشك دهنها على السيلان، وبعضهم مكتوم على نفسه وقد امتلأ جسده بالجروح والقروح، وبعضهم واقف على رجليه وقد تضخمتا لكثرة الوقوف حتى غدتا كأرجل الفيل، وكلهم يصرخ ويتلوى ألما.

طال وقوف عبدو حتى جاوز الساعة وهو يرى المعذبين ويسمع صراخهم واستغاثتهم فيمتلئ قلبه هلعا ورعبا.

ناداه المحقق، فلما دخل بادر بقوله: يا سيدي أنا عملت مصالحة وتسوية، وشملني عفو السيد الرئيس.

– اخرس يا حيوان، العفو هو عن أصحاب الجرائم السلوكية والشخصية والجزائية التي لا تمس الأمن العام، ولكنها لا تفيد الإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بالدماء.

– لكن، يا سيدي، العميد دياب أعطاني الأمان.

– كول خ.. يلعن أ..ك على أ..ه، لا أمان لأعداء الوطن، والقانون لا يحمي المغفلين، ولا بد للعدالة أن تأخذ مجراها، وهلق بدي أعطيك الأمان على طريقتي الخاصة، فاختر طريقة التحقيق التي تحب أن أبدأها معك من هذه الطرق التي جعلناك تشاهدها، هل تحب البلنكو أم الشبح والغاز السفري أم ماذا؟

– أذهلت المفاجأة عبدو ولم يستطع أن يجيب بكلمة.

– فبادر المحقق قائلا: لم تختر شيئا ولم تجب على أول سؤال، والآن سنبدأ عملية فك عقد لسانك.

وسرعان ما كان عبدو مشبوحا إلى السقف، وقد اجتمع عليه ثلاثة من السجانين يتناولونه بالسياط وحزم أسلاك الكهرباء الرباعية والأخضر الإبراهيمي.

وبعد حفل تعذيب طويل أعيد عبدو إلى المحقق ليعترف بكل ما يريده منه مما سيؤدي به إلى حبل المشنقة، هذا إن لم يمت من شدة التعذيب والمرض وقلة الدواء والغذاء.

انتهت.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى