أفضل أيام الدنيا – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٦٢ – ذو الحجة ١٤٤٥ هـ
جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛
إن الأيام العشر من ذي الحجة موسم من مواسم الطاعات والخيرات، فيها يتنافس المتنافسون ويتسابق إليها المتسابقون، حتى عدت هذه الأيام من أفضل أيام الدنيا؛ لما تضمنته من فضائل، واحتوت عليه من ميزات ومسائل، حتى قيل أن أيامها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، ومن أجل ذلك كان العلماء والفضلاء يتنافسون في أعمال البر والإحسان، ومما يدل على فضلها وشرفها ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ»، قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ»، ويكفي في فضلها وكرمها أن الله أقسم بها وهو سبحانه لا يقسم إلا بعظيم من خلقه قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2-1].
لقد تضمنت هذه الأيام الشريفة، والليالي الكريمة يوم عرفة وما أدراك ما عرفة إنه اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم به علينا النعمة، فشرع أعظم رسالاته وأكملها، وأفضل السبل وأنبلها، وأرسل أفضل رسله، وأكرم أنبيائه من خلقه، فقال تقدست أسمائه وجلت صفاته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
في هذا اليوم الأغر يجتمع الحجاج من كل أنحاء العالم، وأصقاع البلاد يلبسون زياً واحداً ويلبون تلبية واحدة، ويتحقق فيهم قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فلا فرق بين أعجمي ولا عربي، ولا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولفضل هذا اليوم قال رسولنا الكريم: «الحج عرفة» صحيح البخاري، وبين أن صيامه لغير الحاج يكفر سنتين، ويمحو ذنوب العباد وتعتق في هذا اليوم الرقاب، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلاَئِكَةَ، فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟» صحيح مسلم، فبادروا رحمكم الله إلى صيامه، واغتنام أوقاته، بما ينفع ويفيد، ويدخر لما بعد الموت ولا يبيد.
ومن أفضل الأعمال في العشر الأواخر ما يلي:
أولًا: الحج وزيارة بيت الله الحرام؛ وقد بين الله أن الحج فرض على كل من استطاع إليه سبيلا قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، والاستطاعة تفسر بالقدرة المادية والبدنية، واشترط بعض العلماء المحرم بالنسبة للمرأة.
ويكفي في فضل الحج ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» صحيح البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد».
ثانيًا: التكبير المطلق وهو مشروع من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ لقول الله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
وأما المقيد ففي أيام التشريق عقب الصلوات المكتوبات، والحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى صبيحة يوم النحر، وصيغة التكبير “الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، أو يثلث: “الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد”.
ثالثًا: تلاوة كتابه وقراءة آياته؛ والتغلغل في مقاصده والتأمل في مراميه، وقد جعل الله الشفاء والرحمة فيه والهداية والنور {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82].
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]،
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أجْرانِ» صحيح البخاري.
بل جاء في الحديث الصريح الصحيح أن تلاوة القرآن يضاعف أجرها، ويعظم أثرها في قلب المؤمن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ (الـم) حرفٌ ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ» رواه الترمذي.
رابعًا: الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، وذكر الله من أسهل العبادات وأعظمها أجرًا وثوابًا.
خامسًا: نحرُ الاضاحي؛ ليتقرب العباد إلى ربهم، ويتصدقوا بلحومها على الفقراء والمحتاجين، وليقتدوا بسنة نبينا إبراهيم، وفيها مواساة للفقراء، وإعانة البؤساء، وتطهيرًا لمرض البخل وإزالة داء الشحناء، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
ومن السنن المستحبة لمن أراد أن يضحي ألا يأخذ من شعره أو ظفره في تلك العشر الأوائل، جاء عن أم سلمة رضي الله عنها “إذا دَخَلَ العَشْرُ وعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أنْ يُضَحِّيَ، فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا، ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا” صحيح مسلم، والحكمة من ذلك أن يشارك الحجاج في بعض مناسكهم وأعمالهم؛ لئلا يغيب عن خاطره عظمة تلك الأيام، وفضل ما قام به سيد الأنام، والأمر خاصة بالمضحي لا المضحى عنه من أهل بيته، والأمر فيه سعة وتيسير، ورحمة لا تعسير.
سادسًا: ومِن الأعمال الصالحة ما يتعدى نفعه؛ كإطعام الطعام، وعيادة المرضى، واتِّباعِ الجنائز، ونحو ذلك، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «…يأيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ…» صحيح ابن ماجه.
وكل عمل صالح يشرع في غيرها من الأيام فهو فيها أحبّ وآكد .
بعض أقوال السلف في عشر ذي الحجة:
قال أبو عثمان النَّهْدِيُّ رحمه الله: “كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرَ الأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْعَشْرَ الأُوَلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ”.
وكان سعيد بن جبير وهو راوي حديث ابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه» رواه البخاري.
وكان يقول: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة”.
وكان يقول: “مَن فاته الحجُّ في هذا العام فدونَه العملُ الصالحُ في هذه الأيام”.
قال الحافظُ ابنُ رجب رحمه الله: “لمَّا كان اللهُ سبحانه قد وضعَ في نفوسِ المؤمنين حنينًا إلى مشاهدةِ بيته الحرامِ، وليس كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِه في كلِّ عامٍ، فرَضَ على المستطيعِ الحجَّ مرةً واحدةً في عُمرِه، وجعلَ موسمَ العشرِ مشتركًا بين السائرينَ والقاعدينَ، فمَن عجزَ عن الحجِّ في عامٍ، قَدَرَ في العشرِ على عملٍ يعملُه في بيتِه يكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الذي هو أفضلُ مِن الحجِّ”.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله: “واستيعابُ عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا أفضلُ مِن جهادٍ لم يذهبْ فيه نفسُه ومالُه، والعبادةُ في غيره تعدِلُ الجهادَ للأخبارِ الصحيحةِ المشهورةِ”.
وقال الحافظُ ابنُ رجب رحمه الله: “إنما يَفضُلُ العملُ فيها على الجهادِ إذا كان العملُ فيها مستغرقًا لأيامِ العشر فيفْضُلُ على جهادٍ في عددِ تلك الأيام مِنْ غيرِ العشر، وإنْ كان العملُ مستغرقًا لبعضِ أيامِ العشرِ فهو أفضلُ مِن جهادٍ في نظيرِ ذلك الزمانِ مِن غيرِ العشرِ”.
*بُشّر بالجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إلَّا بُشِّرَ، ولا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إلَّا بُشِّرَ، قيل: يا رسولَ اللهِ، بالجَنَّةِ؟ قال: نَعَمْ».
*شرف الزمان:
من لم يعرف شرفَ زمانه فسيأتي عليه وقتٌ يعرف ذلك، حين يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100-99].
فاللهَ اللهَ في اغتنام وقتك، والحرص على مواسم الخير، فإنَّ الثواءَ قليلٌ، والرحيلَ قريبٌ، والطريقَ مخوُفٌ، والاغترار غالبٌ، والخطرَ عظيمٌ، والناقدَ بصيرٌ، والله تعالى بالمرصاد، وإليه الرجوع والمآب.
قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:41-39].
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:8-7].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.