القلب محل نظر الرب تبارك وتعالى – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٥ – رجب ١٤٤٤هـ⁩

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

قال تبارك وتعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 – 89].

وقال تبارك وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

والآيات التي تأمرنا بالاعتناء بالقلب كثيرة في كتاب الله عز وجل.

وجاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، حديث إنَّ الحلال بيّن… قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب» متفق عليه.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» صحيح مسلم.

والمقصود في الحديث أنها قلوب سليمة نقية، خالية من الذنب، سالِمَة من العيب، يحرصون على النصح والإخلاص، والمتابَعَة والإحسان، تعيش في الدنيا بسلام، وتنعم في الأخرى بالنعيم والجنان.

إنَّ القلب السليم هو القلب الذي سَلِمَ من كل شهوة مخالِفَة لأمر الله ونهيه، وَمِنْ كل شُبْهَة تخالف خبرَه، وَسَلِمَ من عبودية ما سواه، وَسَلِمَ من تحكيم غير رسوله ومولاه، وَسَلِمَ من محبة غير الله -تعالى-، وَمِنْ خوفِ ورجاءِ غيرِ اللهِ، وَسَلِمَ من التوكل على غير الله، ومن الإنابة إلى غيره، والذُل لغيره، إنه قلبٌ يُؤْثِرُ مرضاتَ الله -تعالى- في كل حال، بعيد عن سخطه بكل طريق؛ فهو قلب سالم من الذنوب والآفات.

* وحتى يكون القلب سليماً لا بد أن يمر بعدة مراحل، وهي:

الأولى: الخُلُوُّ من الغِلّ والحقد والحسد، مع حُبّ الخير للناس، وكف الشر عن الخَلْق، وبهذه الصفة يرتقي في مراتب كمال الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري ومسلم.

والمرحلة الثانية التي يمر بها القلب السليم: الإقبال على الآخرة والإدبار عن الدنيا، مع الزهد فيما في أيدي الناس، وحين يبلغ المؤمنُ هذه المرحلةَ يجعل اللهُ -تعالى- همَّه همًّا واحدًا، هو همُّ الآخرة، ويجعل غناه في قلبه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، كما في الحديث: «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» رواه أحمد.

ثم المرحلة الأخيرة وهي مرحلة متقدمة على تلك المرحلتين الأوليين، وفيها يمتلئ قلبُ المؤمن بحبِّ الله -تعالى- ويتشرَّب بذلك الحُبّ حتى يُصبح حُبّ الله -تعالى- أعظمَ مِنْ كُلِّ حُبٍّ، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: ١٦٥].

 

– واعلم أيها المسلم أن القلب يمرض كما يمرض الجسد، ويجب على من مَرض قلبه أن يعجل في علاجه…

وإنَّ أفضل الأدوية وأنجعها بإذن الله الإقبال على القرآن الكريم قراءة وفهماً وتدبراً، وإن استطعت حفظه فأنعم به وأكرم، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إن أصلَ صلاح القلوب تدبر القرآن الكريم..”.

وإنَّ من علاج القلوب الإكثار من الاستغفار خاصة ومن ذكر الله عامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه مسلم.

قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل”.

– وربما مرض القلب، وربما وصل ذلك المرض بقلب صاحبه إلى الموت والعياذ بالله.

* أنواع مرض القلب: يتعرض القلب لنوعين من المرض،

النوع الأول: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداومة بما يضاد تلك الأسباب.

النوع الثاني: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال، وهو المراد بهذا المقال، كمرض الجهل، ومرض الشبهات، والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لم يحس بالألم، ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه عند الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض.

فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، بخلاف أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها.

وأمراض القلوب التي من هذا النوع كثيرة جدًّا، وجماعها يرجع إلى مرضين خطيرين؛ هما: مرض الشهوات والغي، ومرض الشبهات والشك. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: “القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، وهذان أصل داء الخلق إلا من عافاه الله”.

وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: “مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما: الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها”.

عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» رواه مسلم.

والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأُولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. وهذا المرضان قد ذكرهما الله في كتابه في مواضع كثيرة، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [التوبة: 69].

– وفي الختام نذكر بعض الآيات التي تحذر من أمراض القلوب فليتدبرها العاقلون:

قال تعالى عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10].

وقال تعالى: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) [المدثر: 31].

وقال تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [الحج: 53].

اللهم تقبل منا ما كان صالحاً، وأصلح منا ما كان فاسداً، وأصلح فساد قلوبنا يا مصلح الصالحين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا 

لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى