وقفات بعد معركة سيف القدس الأخيرة || كتابات فكرية ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢⁩

مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢

الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني

منذ لحظة الإعلان عن توقف المعركة الأخيرة مع اليهود كان من الواضح أن ذلك مجرد تأجيل لاشتعالها مرة أخرى، وأن عودتها قريبة جدا، فلقد تم دفن الجمر الملتهب تحت رماد الغل الذي انطوت عليه قلوب اليهود، بعد ما أصابهم من إهانة؛ وما تحقق للمسلمين في فلسطين من نصر معنوي كبير، فلقد خسرت اليهود كثيرا وعلى عدة صعد، أبرزها تراجع وهم الردع الذي صنعه اليهود لأنفسهم طيلة عقود، حيث ثبت أنه جيش واهن؛ وأوهن من بيت العنكبوت، يقاتل بلا عقيدة عسكرية سوى ما يحمله من حقد على الإسلام والمسلمين، وبدافع البقاء الذي أضحى اليهود أنفسهم يشكون في ديمومته.

هذه المعركة مختلفة عن سابقاتها، فمنذ بدايتها تسابق ما يسمى بــ “المجتمع الدولي” لأجل إيقافها، فلقد تتالت على غزة ثلاث حروب سابقة ولم يكن ثمة حرص من الدول الغربية أو دول الإقليم الوظيفية لأجل وقف عدوان اليهود خلال تلك المعارك؛ إلا تصريحات إعلامية جوفاء لذر الرمال في العيون، ويوم أن ينتهي اليهود من بنك أهدافهم تتدخل القوى الدولية لتثبيت “وقف إطلاق النار” بعد أن يصل المسلمون في قطاع غزة إلى مرحلة الإنهاك، وذلك كي يخرج اليهود بلا شروط ملزمة، باستثناء حرب عام 2012 التي شابهت الحرب الأخيرة في المدة الزمنية وكم الدمار المتخلف عنها، وهذا ما يجب الانتباه له.

في حرب عام 2012 كانت الثورات العربية في أوجها، وتزامن مع تلك الحرب وصول جماعة الإخوان إلى رئاسة النظام المصري، مما هدد القدرة على السيطرة على الجماهير فيما لو انتفضت داخل مصر نصرة لفلسطين، واتجاه الانفجار سيكون نحو دولة اليهود بطبيعة الحال، مما سيعطي دافعا معنويا قويا لبقية الشعوب المسلمة خاصة في دول الطوق، لذا سارع اليهود وداعموهم إلى وقف الحرب قبل استفحال الخطر؛ ولو بإعطاء حماس وبقية الفصائل العسكرية فرصة التباهي بالنصر حينها، وما حدث في المعركة الأخيرة كان أشد خطرا على اليهود من معركة عام 2012، فلقد تحركت لأول مرة جموع المسلمين داخل مناطق الــ48 المحتلة، إلى جانب ثورة أهل القدس، وتململ أهل الضفة الغربية الذين تكبلهم سلطة الاحتلال العلماني الفلسطينية، إضافة إلى تحرك جموع كبيرة من المسلمين من جهة الضفة الشرقية في الأردن، هذا الوضع مع تدفق الصواريخ من غزة شكل خطرا وجوديا على دولة اليهود، فهي ليست كباقي دول العالم، فلو أن دولة أخرى واجهت هذا الحال لراهنت على عنصر الوقت مع زيادة في الكثافة النارية لتحقيق أكبر ناتج ممكن قبل وقف إطلاق النار؛ طالما أن المعركة قد اشتعلت وانتهى الأمر، لكن دولة اليهود تختلف، فهي دولة احتلال قائمة على مبدأ الجذب ليهود العالم كي يستقروا فيها، فلو وصل بهم الحال إلى أن تصبح البيئةُ القائمةُ طاردةً ومُنفِّرَةً لرعايا “الدولة” من الداخل فهذا يمثل تهديدا حقيقيا خطيرا جدا، فأغلب اليهود الذين استقروا في دويلتهم المسخ يحملون جنسيات أخرى، ومن السهل اتخاذ قرار الهجرة والرجوع إلى البلد الأصلي، وهذا رأينا بوادره فعلا خلال المعركة بعد أن سمعنا دعوات عدة لترك هذه الدولة التي لا تستطيع تأمين حياة آمنة لمواطنيها، خاصة أن اليهود أشد الشعوب حرصا على الحياة؛ أي حياة، لذا وجد اليهود أنفسهم في ورطةٍ سارع “المجتمع الدولي” بأدواته في المنطقة لإنقاذهم منها.

ولأول مرة في كل الحروب مع اليهود خلال الــ15 عاما الماضية= تتدخل أمريكا بأعلى سلطة فيها، حيث تَدَخَّل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الصليبية بنفسه هذه المرة، وأدار باتصالات مكثفة المحاولات المستميتة لوقف المعركة، فتنقل باتصالاته العديدة خلال أيام قليلة ما بين اليهود في فلسطين واليهود في مصر وكلاب اليهود في رام الله، إلى أن أعلن هو عن وقف القتال ووعد بإعادة إعمار غزة! أمريكا التي دعمت اليهود خلال المعركة بالسلاح والقنابل لهدم غزة هي التي تعد بإعادة إعمارها! وهذا ما كان ليحصل -أي محاولة وقف المعركة بسرعة- لولا انتفاضة المسلمين في كل فلسطين إلى جانب المعركة العسكرية من غزة، إضافة إلى بداية تحرك الشعوب المسلمة الذي كان من الممكن أن يتعاظم بحيث يفقد طواغيت الحكم السيطرة عليه، فلو أن المعركة بقيت محصورة في غزة كالسابق لما تحدث أحد عن وقف إطلاق النار قبل أن يحول اليهود غزة إلى ركام، ولو سقط آلاف الشهداء، وبعد أن يحقق اليهود أهدافهم العسكرية المتمثلة في إنهاك الفصائل بإعادتهم إلى المربع الأول في الإعداد، وإشغال غزة في لملمة جراحها بعد انقشاع غبار المعركة؛ كما يفعلون كل مرة، ومما يلفت الانتباه في هذا السياق هو أن الحروب الأربعة السابقة تمت ثلاثة منها في عهود الديمقراطيين الأمريكيين، حرب 2012 وحرب 2014 والحرب الأخيرة 2021، وحتى الحرب الأولى 2008 – 2009 تمت بعيد فوز الديمقراطيين وخسارة الجمهوريين.

التحركات الدولية الأخيرة لوقف المعركة لم تكن مقتصرة على وقف القتال فقط، بل حرصت أمريكا ووكلاؤها في المنطقة تحديدا النظام المصري الصهيوني إلى استغلال اتصالاتهم مع حماس لكي يمرروا مشاريعهم السياسية عبر بوابة إعادة الإعمار، وهذا ما يُفتَرَض أن تنتبه له حماس، ولكن بعد توقف المعركة فاجأنا القيادي يحيى السنوار بحديثه عن “مناخ دولي داعم للقضية الفلسطينية” مع تأكيده “سعي حركته لاستغلاله”، وكأن هذا الحراك الخارجي قام لنصرة القضية الفلسطينية! بل أكد السنوار أن الحلول السياسية يجب أن تُطلَب من الخارج! وأن حماس تنتظر المبادرات من المجتمع الدولي لوضع الحلول السياسية، وقال: إن هذا ليس دور الحركة! وهذا للأسف -إن لم يكن تصريحا فرديا ارتجاليا كعادة السنوار- معناه إطلاق يد الغرب بأدواته في المنطقة لتمرير مشاريع التصفية السياسية للقضية الفلسطينية، فالواقع القائم حاليا يؤكد أن الأثمان التي يطالب بها الفلسطينيون بمن فيهم حماس هي أثمان يمكن للمجتمع الدولي أن يوافق عليها، كإعادة الإعمار ورفع الحصار أو تخفيفه، وإنجاز صفقة تبادل الأسرى، وإقناع الاحتلال بتأجيل سياساته الاستيطانية في القدس وأحيائها، لكن في المقابل فإن الأثمان السياسية التي يسعى المجتمع الدولي للحصول عليها فادحة، ويتغافل عنها السياسيون الفلسطينيون، والتي تتمثل في نزع فتيل الثورة والانتفاضة الشعبية والعسكرية ووأدها في مهدها، وإخراج غزة من معادلة الصراع؛ مع فصلها سياسيا عن الضفة الغربية، وفصلها شعبيا عن القدس والضفة الغربية، وإلقاء الحمل السياسي والإداري على كاهل النظام المصري من بوابة إعادة الإعمار، وهذا لا ينفك عما صرح به خلال المعركة نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج الدكتور موسى أبو مرزوق أن الحركة موافقة على استقدام قوات دولية للفصل بين الفلسطينيين واليهود، بما في ذلك قطاع غزة! وهذا كلام خطير جدا، فإما أن حماس قبلت راغمة أو راغبة، وأظنها مرغمة، فلقد صرحت خلال السنوات الماضية في أكثر من موقف أن أي قوات دولية في غزة ستتعامل معها كقوات احتلال، فما الذي يرغمها على الموافقة الآن؟ بل واعتبار دخول هذه القوات الدولية “تحريرا كاملا” لغزة! على حد وصف أبو مرزوق، ولو جمعنا ما بين تسلم مصر ملف إعادة الإعمار كاملا وما بين دخول القوات الدولية فسنعلم سر تحمس الأمريكان وجو بايدن الديمقراطي، فتدويل إدارة غزة سياسيا ومدنيا أُمْنِيَةٌ لن تتحقق بإذن الله.

حركة حماس مبدعة في الجانب الاستخباراتي والعسكري، بل تجربتها الاستخباراتية والعسكرية من أفضل التجارب للجماعات الإسلامية، ويجب على الجماعات الإسلامية الأخرى الاستفادة من تجربة حماس الناجحة على المستويين الاستخباراتي والعسكري، ولكنها في المقابل -أي حماس- ليست على هُدًى في السياسة، وعدم توفيقها ظاهر، لذا فإن التعويل على قدرة حركة حماس السياسية للالتفاف على المشاريع السياسية الدولية= ليس تعويلا صائبا، فالثقة في ذلك ليست في محلها، كَوْن الحركة لا تنطلق من مرجعية الشريعة الإسلامية في مواقفها السياسية، وهذا لا علاقة له بتقديم حسن الظن في نوايا الحركة وأهدافها، وتقريره لا يتعارض مع ذلك، فلقد لمسناه في قبول وقف إطلاق النار الأخير، حيث كانت فرصة تاريخية لم يكن يجدر بحال تفويتها، وكان يجب الاستمرار والعض على الجراح، فأي صاحب نظرة سياسية كان يرى بوضوح خطورة استمرار المعركة على دولة اليهود، خاصة في مرحلة الصراع الداخلي بين اليهود وتعثر تشكيل حكومة جديدة، ولكن قرار التوقف قد اتخذه القادة السياسيون بسبب الضغوط الدولية والإقليمية إلى جانب الميدانية، وهذا من ثمار السياسة التي كانت متفلتة من قيود الشرع بحيث فتحت الباب على اتساعه لمثل هذه العلاقات مع الأنظمة الوظيفية التي تسيرها الولايات المتحدة الصليبية لمصلحة الدولة اليهودية المسخ.

ومما يعطي مؤشرا واضحا على أن القيادة السياسية الحالية لحركة حماس ليست على مستوى الأحداث= ارتماء القيادة الغزية برئاسة يحيى السنوار في أحضان الحلف الإيراني لمواجهة دولة الاحتلال اليهودي، وهذا يعطي انطباعا واضحا على أن القرارات السياسية لحركة حماس لا تعير للبعد العقائدي للصراع مع اليهود اهتماما كبيرا؛ وتفصله عن مواقفها السياسية التي تنطلق فيها من عقيدة وطنية بحتة تقوم على المصالح المادية، فقيادة حماس في قطاع غزة هي التي سعت ولا زالت منذ انتخاب يحيى السنوار عام 2017 إلى فتح باب العلاقة مع إيران على مصراعيه، واستطاعت تجاوز الجناح الرافض لهذا التوجه والذي يعد الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي السابق أبرز وجوهه، خالد مشعل -الذي ترأس مؤخرا المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج- ومن معه كانوا يريدون الموازنة في العلاقة مع إيران، بحيث تبقى في حدود قبول الدعم دون مواقف سياسية فجة مرتهنة للحلف الإيراني؛ كما هو الحال حاليا، فَلَم تَعُد قيادة حماس تخفي هذا الترابط مع محور الشر الإيراني، حيث صرح يحيى السنوار بعد المعركة أنها كانت تدار بتنسيق كامل مع من سماهم “محور المقاومة” في المنطقة، بل وأكد أنه على علم ويقين تام أن المعركة لو استمرت لتدخل حلفاؤه في “محور المقاومة”، فإما أن هذا مجرد تصريح ارتجالي كالعادة يريد به السنوار تقديم فرصة لهذا الحلف الشيطاني لكي يستطيع ترميم سمعته بعد أن اتضح شعبيا أنه حلف لا يستأسد إلا على شعوب المسلمين فقط، وعندما اندلعت المعركة الأخيرة لم يقدم هذا المحور سوى جعجعة فارغة على وسائل الإعلام الخاصة به، وإما أن السنوار فعلا يتحدث عن علاقة وطيدة باتت تتجاوز قضية الدعم إلى الأهداف المشتركة والتنسيق الكامل في المواقف والميدان، وفي كلا الحالين فهذا ليس منطلقا من فهم سياسي شرعي البتة، فالمشروع الإيراني الرافضي هو النسخة الأخرى للمشروع اليهودي، كلاهما مشاريع احتلال لبلاد المسلمين، بل المشروع الرافضي أشد جرما، وكلاهما يلعب دوره نيابة عن الغرب الصليبي داخل الأمة الإسلامية، وكلا المشروعان وكلاء للصليبيين في مواجهة الإسلام والمسلمين، الفارق هو أن المشروع الرافضي يخفي دوره الاحتلالي خلف وجه زائف من الشعارات المكذوبة، إيران التي لولا وجود “إسرائيل” لكانت هي مشروع الغرب في المنطقة لتمارس دورها اليوم، ولذلك فعداء “إسرائيل” مع إيران عداء حقيقي قائم على منع إيران من أن تكون البديل لها مستقبلا، ولكي تمنعها حاليا من زيادة النفوذ في المنطقة، فهو صراع وكلاء الغرب في بلاد المسلمين، وهو صراع سياسي بحت لا مكان للعقيدة والدين فيه، وحماس والتنظيمات الفلسطينية رهنت نفسها في يد بديل دولة اليهود لكي يواجهوا اليهود!

بخصوص يحيى السنوار الذي بات على رأس المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة للدورة الثانية على التوالي= من الواضح أنه شخصية عاطفية اندفاعية، هذه الشخصية المتهورة هي التي سعت بكل قوة للارتماء والانتماء لمشروع إيران في المنطقة، بل كانت هذه نواياه منذ كان أسيرا في سجون اليهود، ومما يعطينا تصورا عن شخصية السنوار تصريحه بعد الحرب عندما قال: إنه خلال المعركة وعندما تم قصف “تل أبيب” قال لإخوانه: إنه يود الآن أن يخرج غير آبه لو تم اغتياله! إلا أن إخوانه منعوه على حد قوله، وهذا يؤكد أن شخصيته لا تصلح لقائد سياسي يقود جيشا في معركة شديدة الأهمية مع اليهود، فضرب “تل أبيب” هدف لقائد ميداني لا علاقة له بصناعة القرار، أما صانع القرار فأهدافه أبعد من ذلك بكثير، وهذا يدل على أن شخصية السنوار تسعى لمجرد صناعة الحضور وتسجيل النقاط.

ومما يدل على ذلك أيضا من المواقف تصريحات السنوار عندما وعد أهل غزة بانفراجة اقتصادية قبل نهاية العام الحالي، وهذا قصور في تصور طبيعة الأحداث المتسارعة عالميا وإقليميا ومحليا؛ والتي تشي بانفجار شديد في أي لحظة، أو أن السنوار لا يبالي بمشاعر شعبه في مقابل تسجيل موقف نصر لحظي؛ كما يفعل مع شعوب الأمة الذين يذوقون الويلات من الاحتلال الإيراني في بلادهم!

وأيضا من التصريحات الغريبة للسنوار عندما ذكر الرقم 1111 وطلب من الجميع تذكره، في إشارة إلى صفقة تبادل قريبة للأسرى ستثمر عن تحرير هذا الرقم من أسرى المسلمين في سجون اليهود، ونسأل الله ذلك وأكثر، ولكن اللافت للنظر أن هذا التصريح من السنوار جاء بعد زيارة وزير المخابرات المصرية الصهيونية عباس كامل، وكأن السنوار وثق في وعود النظام المصري وتبنيه لمطالب الفلسطينيين فسارع إلى الإعلام للتعبير عن هذه الثقة! وأغفل السنوار باندفاعه أن اليهود -حين صرح بهذا التصريح- كانوا على أعتاب تشكيل حكومة جديدة لن يكون نتنياهو على رأسها، مما قد يعني عرقلة أي جهود تفاوضية كانت قبل تشكيل حكومتهم والبدء من المربع الأول بشروط جديدة للحكومة الجديدة، وربما تتعرقل هذه الجهود تماما، ومع ذلك لم يأبه السنوار بأن يُسَجَّلَ عليه وعد قد لا يستطيع تحقيقه، وهذا لضعفه في قراءة المشهد السياسي رغم إتقانه للغة العبرية، فلقد أكد بعد المعركة الأخيرة أن نتنياهو لا زال لم ينته بعد، وأنه باق، فلم يكد يمر يومان حتى أُعلِن عن تشكيل حكومة جديدة بدون نتنياهو وحزب الليكود، مع حديث واضح بقرب محاكمة نتنياهو في قضايا الفساد التي يواجهها منذ زمن ويتحصن بحصانته السياسية لكي لا توجه إليه أي اتهامات، وهذا ما قد لا يستطيعه بعد دخوله في صف المعارضة.

وعلى ذكر حكومة اليهود الجديدة فلقد تشكلت بعد صراع داخلي طويل، حيث تم تشكيلها هذه المرة بشق الأنفس من أحزاب يمينية ويسارية وقومية وعربية، وبالكاد حصلت على ثقة البرلمان اليهودي “الكنيست”، والتي جاءت بـ “بينت” و “لابيد” على رأسها بالتتالي خلفا لنتنياهو الذي لن يستسلم هو وأنصاره لمحاولة عرقلة تشكيلها أو إفشالها بعد التشكيل، وهي حكومة جمعت فرقاء وَحَّدَهُم الموقف من نتنياهو، فبينت ولابيد وغانتس وساعر وليبرمان لم يفتأوا خلال الفترة السابقة التي فشلت فيها محاولات تشكيل الحكومة خلال أربع جولات انتخابية متتالية خلال سنتين فقط= لم يفتأوا يتبادلون الهجوم فيما بينهم، ليتحدوا فجأة لإسقاط نتنياهو، هذا الاجتماع بني على ردم سريع للخلافات البينية دون إنهائها، لذا فالحكومة القادمة ستكون مضطربة في ملف التعامل مع الفلسطينيين وقد تجنح لأقصى اليمين في سياساتها، خاصة أن بينت من أشد الأطراف حدة في مواجهة “الإرهاب” الفلسطيني، فهو الذي كان يطالب بإبقاء حرب عام 2014 ويرفض إيقافها يوم أن كان وزيرا للتعليم في تلك الفترة، ويعلن رفضه لما يسمى حل الدولتين الذي تُسَوِّقُه الولايات المتحدة الصليبية، وله موقف شديد الوضوح في تبني سياسات الاستيطان اليهودي، ولا يخفي مطالبه في ضم ما يسمى بالمناطق “ج”، بل يعلن رغبته في ضم محافظة جنين بالكامل، ولن يدخر جهدا في تطبيق أي من سياساته هذه خلال فترة ترأسه للحكومة ليعيد مكانته داخل اليمين الذي انقسم فيما بينه بعد صراع على ترأس الحكومة، حتى وصل الأمر إلى “تكفير” بينت بعد تشكيله حكومة مع اليسار والعلمانيين والقوميين والعرب “الإسلاميين” ممثلين في “القائمة العربية الموحدة” التي يرأسها منصور عباس أحد قادة “الحركة الإسلامية الشمالية”، ولا نعلم أي إسلام يقصدون!

لذا فإن هذا الهدوء الحالي في الغالب لن يطول، فاليهود أخذوا قرار التوقف لكي يعودوا مرة أخرى مستغلين عامل المفاجأة الذي يعتبرونه عقيدة عسكرية، والذي حُرِمُوا منه في بداية هذه المعركة، ولقد أوقفوا القصف وهم يكتمون غيظا ملتهبا في صدورهم على ما أصابهم من ذلة وصَغار خلال 11 يوما، فلن يلبثوا حتى يعودوا وبهدف ثمين ينتظرونه ويبحثون عنه ليبيعوا وهم الانتصار أمام قطعانهم، وأظن القائد أبا خالد الضيف هو أكثر من يغيظ اليهود، ولعل الأمريكان هذه المرة يتدخلون استخباراتيا لمعاونة اليهود في الوصول إليه بعد أن أصبح رمزا من رموز القتال على مستوى الأمة الإسلامية وليس فلسطين فقط، نسأل الله أن يحفظه ويسلمه.

بل ليس مستبعدا أن يساهم النظام المصري بذراعه المخابرات العامة في جمع المعلومات الاستخبارية للوصول إلى الأهداف الدسمة، وما سعيه لدخول قطاع غزة عبر بوابة إعادة الإعمار ومسارعته لإرسال طواقم كاملة مع آليات ومعدات إزالة الركام كبداية= إلا مؤشر على نوايا تدخل سياسية ومدنية وأمنية، والطواقم التي تم إرسالها يجب تقديم سوء الظن في التعامل معها، لأن المهمات الأمنية ستكون على رأس أولويات عملهم، والناظر لزيارة وزير المخابرات المصرية عباس كامل إلى قطاع غزة ليعلم أنها حملت أهدافا علنية وتحركات سرية، فزيارته التي قيل: إنها للمباني المدمرة للاطلاع على سير عملية إعادة الإعمار ليست منطقية، فليست هذه مهمة رئيس جهاز المخابرات المصري، ويبدو أن تحركاته كانت للاطلاع على أمور تخص الأسرى اليهود الموجودين في غزة، وهذه التحركات من رأس الجهاز الأمني وما سبقها وما تلاها من خطوات للنظام المصري داخل قطاع غزة سيكون لها ما بعدها من تحركات أوسع بعيدا عن أعين الفلسطينيين وبتنسيق كامل مع اليهود المحتلين.

النظام المصري الفرعوني لن يتأخر في إغلاق الباب في وجه حماس مرة أخرى إن أحس منها تنكبا لسياساته المتساوقة مع الرغبات الأمريكية؛ طمعا في تقديم فروض الطاعة للأمريكان وإثبات القدرة أمامهم على صناعة الأحداث في المنطقة لكي يبقى هذا النظام حائزا على “شرف” خدمة المصالح الغربية والأمريكية، وبالتالي استمرار الحصول على الدعم المالي والسياسي كنظام قادر على مهامه في المنطقة، ويبدو أن حركة حماس وجدت أنها تسير في طريق لن تستطيع الانفكاك عنه إن استمرت في سياساتها البراغماتية مع النظام المصري، فقامت مؤخرا برفع سقف مطالبها عاليا فيما يخص حواراتها مع حركة فتح العلمانية في القاهرة، وذلك لكي تحاول الخروج من الإلزامات المصرية، ولم تجد سبيلا سوى التصعيد مع فتح والتهديد لليهود، وهذا هو فعلا السبيل الحقيقي، فلن تحصل حماس على شيء في هذه اللعبة السياسية ما لم تكن صاحبة أقدام ثقيلة على الأرض، ومشكلة حماس أنها تريد الاستثمار طويل الأمد في معترك السياسة عبر جولات تصعيد قصيرة، وهذا لن يحصل، بل الضغط الميداني هو الذي يجب أن يكون مستمرا، وإن انقطع فلا يكون ذلك إلا اضطرارا؛ وتحضيرا لجولات أخرى، وهذا الضغط المستمر هو ما يحقق المطالب الحياتية والسياسية.

واللافت للنظر أن النظام المصري أعلن عن مجموعة من قرارات الإعدام للعديد من أسرى المسلمين من جماعة الإخوان في سجونه، حيث جاء هذا الإعلان بعد أن رفعت حماس سقف مطالبها في القاهرة، كأنه رسالة إلى حماس نفسها، أو أن النظام يريد إحراج الحركة التي أعلنت في العديد من المواقف عدم تدخلها في الشأن المصري!

إن على حماس أن تعلم أنها بمثابة الصاعق الذي سيفجر المعركة، فالمعركة القادمة أكبر منها ومن كل التنظيمات الفلسطينية ومن كل أهل فلسطين، وأي حرب قادمة يجب أن يكون الهدف الرئيس فيها هو الصبر على لأوائها والعض على الجراح، لأنها كلما استمرت كلما أججت الغضب في نفوس المسلمين وراكمته وأوصلته لمرحلة الانفجار الذي سيكون بداية النهاية لدولة اليهود، لأن قضية فلسطين ليست كغيرها بالنسبة لشعوب الأمة الإسلامية، فهي أقرب إلى القلوب، وهذه مزية لقضية فلسطين تَفْضُل بها غيرَها من قضايا الأمة، ومن الأمانة الملقاة على عاتق الفلسطينيين استغلال هذه المزية لخدمة جميع قضايا الأمة، فأي تغيير لصالح المسلمين في فلسطين سينعكس على جميع بلاد المسلمين وقضاياهم قولا واحدا، وإن أي معركة قادمة لو تطورت حتى تضطرب دول الطوق على الأقل فهذا أول مسمار في نعش هذه الدولة المسخ، ومن يقول: إن تحرير فلسطين سيكون من خارجها فلم يبتعد كثيرا، ولعل هذه أصبحت سنة تاريخية لفلسطين، فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءها من الجزيرة العربية، والقائد الفاتح الكبير الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله جاءها من كردستان مرورا بمصر، وإمام الجهاد المعاصر الشيخ أسامة بن لادن تقبله الله قد صرح سابقا -بفهمه لطبيعة الصراع- أن تحرير فلسطين سيكون مرورا بالأردن، وهذا يؤيده الواقع، فالحدود الأردنية هي الأطول مع دولة اليهود المسخ، وداخل الأردن توجد الكتلة الأكبر للمهجرين الفلسطينيين، والأردن ستكون بوابة العبور بإذن الله لمجاهدي الأمة قدوما من الشام، فهي الضفة الشرقية التي بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بقية المسلمين سيقاتلون انطلاقا منها في آخر الزمان، ولقد استبشرنا عندما تحركت الجماهير من الأردن باتجاه الحدود مع اليهود خلال المعركة الأخيرة، فهذه صورة مصغرة لما هو قادم بإذن الله تعالى.

أخيرا، أظن أنه من اللازم تهيئة الناس لعودة المعارك قريبا، وأن تبقى الماكنة الإعلامية مشتغلة بهذا، فمن الخطأ أن يأمن المسلمون جانب عدوهم ويركنوا إلى وهم الهدوء، فلو حصل هذا سيكون أثر المعركة القادمة شديدا على النفوس، بخلاف ما لو علم المسلمون أنهم ينتظرون معركة قريبة؛ فهذا سيعينهم على الصبر والمواصلة فيها، وإني أظن أنه من الأفضل إيواء المشردين في مساكن سريعة الإنشاء دون تعليق أمرهم بقضية إعادة الإعمار، فربما لا نجد وقتا لحفر الأساسات! أسأل الله أن يعوض كل من فقد بيته وماله في هذه المعركة، ويصبر المكلومين بفقد أهليهم، ويشفي ويعافي الجرحى.

كما وعلى كل مريد لنصر الأمة أن يتأمل في معركة “سيف القدس” الأخيرة، كيف اجتمعت معها قلوب المسلمين في فلسطين وبقية الأمة، وكيف تحققت لحركة حماس شعبية كبيرة واحتضان شعبي جارف خلال بضعة أيام فقط، وكيف استطاعت فرض نفسها على مسرح الأحداث بكل قوة بعدما شهرت في وجوه أعداء الله سيفا مسلطا، في مقابل أنها لم تحز طيلة 15 عاما ماضية من العمل السياسي العقيم عُشر معشار ما تحصلت عليه من دعم شعبي وحضور قوي خلال أيام القتال القليلة، وهذا لكي يعلم الصادقون في نصرة الإسلام أن الطريق إلى العز والسؤدد لا يمر إلا من طريق الجهاد والاستشهاد والمغالبة والبأس الشديد، ولن يحوز المقاتلون عطية النصر ما لم يكن قتالهم وجهادهم لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وهم يحملون لواء العقيدة ويحققون أواصر الأخوة الإيمانية في جهادهم متقيدين بعقيدة الولاء والبراء في الله ودين الله، لا في الأحزاب أو الأوطان، وكل دعاوى الصمود التي تعلق المسلمين بغير سبيل الله ونصرة دين الله لا عبرة لها؛ ولن تحقق صمودا على الأرض، فالنصر يتنزل بقدر الاتباع، والاتباع لا يكون إلا بالاعتصام بحبل الله لا حبل الوطن.

بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى