الأسير (12) مجلة بلاغ العدد ٥٦ – جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـDecember 21, 2023

الأستاذ: غياث الحلبي

 

اليوم مختلف في المهجع عن بقية الأيام فالأمل يملأ قلوب السجناء وكلهم مستبشر متفائل فقد سرت في السجن إشاعة مفادها أن ثمة صفقة تبادل أسرى يتم الإعداد لها ستجري قريباً ويُتوقع أن تكون سببا للإفراج عن عشرات السجناء القدامى الذين أمضوا في السجن ثلاثة أعوام فأكثر فضلا عن غيرهم.

في البداية استقبل عامة السجناء خبر الصفقة ببرود فقد سئموا الآمال الزائفة وأخذوا يسخرون من القلة الذين عولوا على هذا السراب إلا أن الإشاعة تحولت إلى حقيقة فعلا عندما سمع بعض السجناء السجانين يتحدثون بشأنها ويقول أحدهم:

ــــ سيتم غدا عزل السجناء الذين سيخرجون في صفقة التبادل في مهجع خاص.

ــــ هؤلاء إرهابيون مجرمون يجب ألا يخرجوا أبدا، يجب أن يموتوا في السجن، إخراجهم يعني إعطاؤهم فرصة ليقتلوا مزيداً من الأبرياء.

ـــ هؤلاء لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، أساسا أنا مستغرب كيف لم يموتوا إلى الآن، مجرد هياكل عظمية قد أنهكتها الأمراض، يعني بالعربي سيخرجون ليموتوا ويوفروا علينا دفنهم.

ـــ يخرب بيتهم مثل القطط بسبعة أرواح، نضربهم ضربا يهد الجبال ثم يقومون ليس بهم شيء.

بعد تناقل هذا الحوار بين السجناء ظل بعضهم متشككاً فهم يخشون أن يكون السجانون تعمدوا إسماع بعض السجناء لحوار ليقتلوا فرحتهم لاحقا عندما يعلمون أن الأمر مجرد كذبة بغيضة، أما معظم السجناء فكان يتنازعهم الرجاء والخوف، الرجاء أن تشملهم الصفقة، والخوف من نقيض ذلك، فلما خلدوا إلى نوم تراءت لهم أحلام بما يجول في خواطرهم من أفكار.

أما هاني داعب خياله صورة ولده وأمه وزجته وأخذ يفكر ترى أين سيبحث عنهم إن خرج أتراهم بقوا في القرية أم خرجوا منها؟ لما سيطر النظام عليها، كم ستكون الفرحة عظيمة عندما يلتقي بهم، لا شك أن والدته ستغرد زغاريد أكثر من تلك الزغاريد التي زغردتها يوم عرسه، سيمسح دموع أمه وزوجته بيده ويعاهدهم أن يسعى ليملأ حياتهم فرحاً كما ملئت حزنا، ما أخبار الحمل الذي تركه عندما اعتقل أهو ذكر أم أنثى؟ أيشبهه أم يشبه ميساء؟

ثم يعود إلى نفسه متسائلا: أتراه سيخرج لتتحقق أحلامه أم أنه قد كتب عليه أن يموت هنا ويدفن في مقبرة جماعية تبقى مجهولة فلا يُعرفُ له قبر ولا يُسمع عنه خبر؟

وأخيرا مضت تلك الليلة التي كانت حافلة بالمناقشات والأحلام والآمال والمخاوف، طلع النهار وسط ترقب وتلهف لمن سينادى اسمه ليُنقل إلى مهجع جديد تمهيدا لمبادلته، أحد السجناء أسرَّ إلى رفيقه الذي بقربه قائلا:

ـــ هؤلاء ملاعين قد ينادون اسم السجين ليفرح ويظن أنه سيفرج عنه فإذا خرج ضربوه فوجئ بقولهم: هناك تشابه أسماء لست أنت المطلوب ثم أعادوه وإذا كان حظه أسوأ من ذلك أوسعوه ضربا قائلين: حتى لا يكون خروجك بلا فائدة.

بدأت أبواب الزنازين تُفتح وينادى على الأسماء وجرى ما توقعه ذاك السجين فبعد أن نودي على بعض الأسماء أعيدوا بعد أن نالوا نصيبهم من الضرب المبرح الذي أوصل بعضهم إلى حافة الموت، مما جعل السجناء الذين كانوا يتمنون أن تنادى أسماؤهم يتوجسون شرا ورضوا من الغنيمة بالسلامة.

وصل السجان إلى المهجع الذي فيه هاني وفتح الباب ونودي ثلاثة أسماء كان اسم هاني أحدهم، دق قلبه بشدة أهو الفرج أم لعب بالأعصاب ينتهي بحفلة تعذيب غير أنه لم يسعه إلا أن يقول: حاضر، وطلب منه أن يجمع أغراضه ويستعد، ولم يدرِ أي أغراض تلك التي سيجمعها وهو لا يملك إلا الثياب المهلهلة التي على هيكله العظمي الذي التصق به جلده.

ولما فرغ السجناء من مناداة الأسماء ابتدأت عملية نقل السجناء إلى المهجع الخاص، ولما أُخرِج هاني شعر أن قلبه قد بلغ حنجرته خشية إعادته إلى مهجعه، إلا أن الأمر قد مرّ بسلام، وفُتح باب المهجع الخاص ليدخله قرابة أربعين سجيناً، ولما دلف هاني إلى داخل المهجع فوجئ بوجود شخص عزيز عليه جدا، شخص يحتاجه في هذ الوقت بشدة، لقد وجد صديقه الصيدلي، ولما أُغلق الباب همّ بالذهاب إليه غير أن الصيدلي أشار إليه بعينه ألا يفعل، ولم يسعه إلا الامتثال، وبعد أن مضى بعض الوقت وبدأ السجناء يختلط بعضهم ببعض ويتجاذبون أطراف الحديث أخذ الصيدلي يكلم بعض السجناء حتى أتى على هاني وقال له: لا تُظهر أنك تعرفني الاحتياط واجب ولا نعلم ما الذي ينتظرنا، إياك أن تطمئن قبل أن تصل الجهة الأخرى بسلام.

في مساء ذلك اليوم تم الانتهاء من بعض الإجراءات الإدارية ثم تم نقل السجناء إلى سجن آخر فشعر السجناء أن خروجهم من صيدنايا هو إفراج بحد ذاته، في هذا السجن الجديد الطعام متوفر بكميات لا بأس بها ويوجد ندوة يشتري منها السجناء ما شاؤوا من الطعام واللباس والمنظفات المهاجع واسعة مقارنة بصيدنايا والضرب والتعذيب لغرض التسلية قليل ومعاملة السجانين ـــ وإن كانت سيئة ـــ غير أنه لا مجال لمقارنتها بصيدنايا الشرطي هنا يكتفي بالسب والشتم وببعض الصفع والركلات، وأما الدولاب فهو لا يكون إلا عقوبة على مخالفة ما.

استُقبل سجناء صيدنايا بالترحيب من السجناء الآخرين وقدموا لهم الكثير من الطعام والألبسة لما رأوا من سوء حالهم، وهذا التعاطف أسال عيون بعض السجناء ليقول أحدهم: لا تزال الدنيا بخير، ليجيبه آخر “إذا خليت خربت”.

بقي سجناء صيدنايا عشرة أيام في هذا السجن ثم تم نقلهم إلى سيارات الهلال الأحمر لتسير بهم نحو الحرية، كانوا لا يصدقون أنهم نجوا من الجحيم، وأن ساعات تفصلهم عن حريتهم تكاد قلوبهم تقفز من صدورهم لشدة الفرح، كانوا يفكرون كيف سيعثرون على أهليهم، أتم الإعلان عن أسماء الأسرى المفرج عنهم وبالتالي سيجدون أهليهم بانتظارهم أم أن عليهم البحث عنهم؟ ولكن أين؟ الخارج بالنسبة لهم أحجية لا يعرفون شيئا عن حلها.

سارت العربات المحملة بالأسرى بضع ساعات لتعبر أخيرا مناطق النظام إلى المناطق المحررة، كان في استقبال الأسرى حشود غفيرة فلا تسمع إلا الزغاريد وإطلاق النار في الهواء

بعض الأسرى

تمكن معظم الأسرى من الوصول إلى أهليهم الذين كانوا في استقبالهم، أما هاني فقد ظل حائرا هائما لا يدري ماذا يصنع ولا إلى أين يذهب، أما الصيدلي فقد كان في استقباله أحد الفصائل العسكرية المجاهدة، ولما رأى صديقه حائرا قال له: تعال معي يا هاني الآن وسيبحث الشباب لك عن أسرتك، ومضت السيارة باتجاه أحد المقرات وبعض أن استقبل الصيدلي وهاني بالترحاب الشديد أوصى الصيدلي المجاهدين بصديقه ثم مضى إلى بيته.

قص هاني على الشباب في المقر قصته وذكر لهم اسم قريته وطلب إليهم إرشاده إلى أي أحد من قريته، فقال أحدهم: جارنا من هذه القرية، فأصر هاني على المضي إليه مسرعا ورفض أن يرتاح قبل لقياه، انطلقت بهم السيارة حتى وصلوا إلى داره وبعد السلام والتهنئة بالسلامة شرع هاني يسأله عن أهله فحاول الرجل الحيدة إلا أن هاني أصر عليه فأخذ يتكلم عن الدنيا وتقلبها بأهلها ووجوب الصبر مما جعل هاني يضطرب ويشعر أن ثمة مصيبة حلت بأسرته فأخذ يكرر السؤال ويلح في تلقي الإجابة فلم يجد الرجل مناصا من أن يخبره من أن والدته استشهدت بقصف للطيران وحتى يخفف وقع المصيبة سارع بإخباره أن زوجته وابنه بخير، حزن هاني لفقد والدته وجرت الدموع من عينيه فقد كان يريدها أن تفرح بخروجه كما حزنت باعتقاله، وبعد عدة دقائق سأل هاني الرجل عن مكان إقامة زوجته وابنه وتحير الرجل أيخبره أن زوجته تزوجت فيتبع المصيبة الأولى بأختها أم يدله على البيت ويتركه ليتفاجأ هناك بالمصيبة وربما تطور الأمر وسالت الدماء، فوجد أن أسلم الحلول أن يعتذر إليه بعدم معرفته مكان إقامة زوجته ووعده أن يحصل على العنوان غدا إلا أن هاني شعر أن الرجل يكذب عليه، ولما خرجا من الدار أمسك الرجل بذراع المجاهد الذي جاء مع هاني وأخبره بالقصة وأرشده إلى العنوان وقال له: أخبره بطريقتك، فلما صعدا السيارة قال هاني: أعلم أنه أسر إليك شيئا لا يريد أن أعرفه ولكني لبثت في السجن أكثر من خمس سنوات أترقب الفرج لألتقي بأهلي ومن حقي أن أعرف الحقيقة، ولقد مر بي من المصائب في السجن ما جعلني قادرا على تحمل الصدمات.

فأخبره الرجل بحقيقة الأمر وصعق هاني وهو يسمع أن زوجته قد تزوجت، ربما كان أهون عليه لو أخبر أنها استشهدت كوالدته، كان المصيبة فوق تحمله هذه المرة فأغمي عليه ونقل إلى المستشفى، جميع آماله تحطمت إنه الآن يود أنه مات في السجن ولم يخرج ليجد هذا الواقع المرير.

سارع الصيدلي ليزور صديقه بعد أن عرف قصته وكعادته أخذ يشحذ همته ويرفع معنوياته ويخفف عنه بلواه حتى سُرّي عنه بعض ما به ثم قال له: إلى متى ستظل هكذا راقدا في الفراش علينا أن نعمل لإنقاذ الأُسارى وتحرير البلاد فتبسم هاني بابتسامة خفيفة فأتبع الصيدلي ذلك ينشد:

قم فإن الله لا يرضى بأن تحيا ذليلا

واحمل الرايات واحتمل حملا ثقيلا

ثم مد له يده ينهضه قائلا: زوجتك لم ترتكب حراماً هي طلبت الطلاق عبر القاضي وقد حصلت عليه فعليك ألا تحمل عليها في قلبك ضغنا، وتفهم موقفها.

ـــ أعلم ذلك أنا لا ألومها لقد انتظرتني طويلا حتى ظنت أني قد مت لا ألومها أبدا

ـــ عموما عليك أن تستعد لأن دربا طويلا من الجهاد ينتظرك، ثمة أيام صعاب تحتاج رجالاً

ــــ إن شاء الله

أما ميساء فسرعان ما وصل إليها خبر إطلاق سراح زوجها السابق هاني فشعرت بجرح عميق قد نكئ وأخذت دموعها تنهمر فلما عاد زوجها من عمله رآها على هذه الحال فسألها عن حالها إلا أنها استمرت بالبكاء فكرر عليها السؤال وهي لا تجيب إلا بمزيد من الدموع حتى كاد أن يخرج عن طوره وأخيرا قالت له: هاني، فظن أنها تذكرته فقال لها: رحمه الله ادعي له بالرحمة فهو لن يستفيد من بكاءك إلا أنها صرخت: لا، لا، إنه حي لقد خرج من السجن وهو الآن في المستشفى، ولما سمع زوجها ذلك علاه الوجوم وأطرق يفكر ثم قال لها:

ـــ أتريدين أن ترجعي إليه؟

غير أنها لم تجبه إلا بمزيد من الدموع

ـــ عموما إذا أردت ذلك فلا مانع لدي، يمكنك أن تذهبي لزيارته وابنك غدا لتقرري، ثم تركها وغادر البيت.

أمضت ميساء ليلتها في البكاء والنحيب والتفكير، كيف ستقابل هاني بعد أن تزوجت بعده؟ وهل يقبل أن يعيدها إلى عصمته، بعد أن أجهدها التعب والسهر قررت أن تكف عن التفكير الآن ليكشف لها الغد سجف الغيب المسدل دونه.

صباح الغد أخذت ميساء ابنها هاني الصغير وانطلقت معه لزيارة زوجها في المستشفى، مرت لحظات حرجة قبل أن يفتح هاني ذراعيه ليضم ابنه إليه بشدة يشمه ويقبله ويبكي بينما كانت ميساء تقف جانبا ثم التفت نحوها وقال: أنا لا ألومك فعلت ما هو حقا لك ليس من المعقول أن تبقي بانتظار المصير المجهول أبد الدهر.

فقالت: لقد قال لي إذا أردت أن ترجعي إلى هاني فأنا موافقك

ـــ أتريدين أن ترجعي

أسبلت عينيها وبكت قائلة: لقد انتظرتك طويلا وأمضيت ليالي طوالاً أرقب عودتك

ـــ أخبريه إذن وعودي إليّ، ولكن اعلمي أني قد اخترت طريق الجهاد، وهو طريق محفوف بالمخاطر والمصاعب فكري جيدا قبل أن تقرري

حصلت ميساء على الطلاق وتربصت حتى انقضت عدتها ثم عقد عليها هاني وآواهما بيتهما مجدداً، وبعد أن قضى هاني شهرا مع عروسه يمم وجهه شطر صديقه الصيدلي ليبدأ طريق الجهاد وقد عاهد الله أن لا يتركه حتى يفضي إما إلى النصر وإما إلى الشهادة.

تمت.. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى