ملوك الآخرة – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٣٩ – المحرم ١٤٤٤ هـ

ملوك الآخرة

الدكتور: أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الرافع الخافض، المعز المذل، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد؛

ففي واقع طغت فيه حضارة الشيطان وقيمها المادية فبات أكثر الناس ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ))، وتكاثر أهله بالزائل الزائف ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ))، واختلت فيه الموازين، وقلبت المفاهيم، وركن فيه إلى الدنيا وشهواتها، وغفل عن الآخرة ونعيمها، وعلا فيه أهل الفجور والانتكاس، وحورب الحق والفطرة، لا بد من دوام التواصي والتذكير الدائم بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة وحقيقة العلو فيهما، وهذا ما سأتناوله في مقالنا الحالي عبر عدة وقفات؛ فأقول وبالله التوفيق:

* الوقفة الأولى – في حقيقة الدنيا وقدرها:

 

– يقول تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)).

– ويقول سبحانه: ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)).

– ويقول أيضا: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)).

وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدْخِل أحدُكم أصبعه في اليَمِّ -يعني: في البحر- فلينظر بم ترجع».

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء» رواه الترمذي.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب».

وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (رواه مسلم).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً» (رواه الترمذي، وهو حديث حسن).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء» (رواه مسلم).

* الوقفة الثانية – في حال الناس مع الدنيا والآخرة:

 

يقول تعالى: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)) ويقول أيضا: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) يقول ابن كثير رحمه الله: “أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة. قال الحسن البصري: والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي، وقال ابن عباس في قوله تعالى: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) الآية: يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال”.

ويقول سبحانه: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) أي تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم من الأموال والأولاد، والمراكب والمساكن، والمطاعم والمشارب، ونحوها، فهذا تكاثر مُلْـهٍ عن الله والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلة والحرمان، بخلاف التكاثر المحمود في الطاعات وأعمال الخير والبر الصائر إلى سعادة الدنيا والآخرة.

ويقول تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)).

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ» [صحيح البخاري 2887].

* الوقفة الثالثة – في بيان العلو المحمود وحال ملوك الآخرة:

في قوله تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) يقول ابن كثير رحمه الله: “يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوا في الأرض، أي: ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم، ولا فسادا فيهم. كما قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: العلو: البغي. وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن منصور، عن مسلم البطين: العلو في الأرض: التكبر بغير حق. والفساد: أخذ المال بغير حق. وقال ابن جريج: (لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) تعظما وتجبرا، (وَلَا فَسَادًا): عملا بالمعاصي”.

ويبين السعدي رحمه الله أن العاقبة تكون للمتقين، فيقول رحمه الله: “((وَالْعَاقِبَةُ)) أي حالة الفلاح والنجاح، التي تستقر وتستمر، لمن اتقى اللّه تعالى، وغيرهم -وإن حصل لهم بعض الظهور والراحة- فإنه لا يطول وقته، ويزول عن قريب. وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة، أن الذين يريدون العلو في الأرض أو الفساد، ليس لهم في الدار الآخرة نصيب، ولا لهم منها نصيب”.

ويوضح ابن رجب رحمه الله في رسالته الماتعة “ذم الحرص على المال والشرف” أن ملك الآخرة إنما يكون بـ:

أ – الحرص على العلو الأول الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، وهذا حرص محمود، يقول تعالى: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) قال الحسن: “إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة”، وقال وهيب بن الورد: “إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل”.

ب – الزهد في العلو الثاني المذموم الذي فيه غضب الله وسخطه والمتمثل في العتو والتكبر في الأرض بغير الحق، ولهذا الزهد أسباب عديدة منها:

1 – نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة.

2 – نظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمتكبرين ومن ينازع الله رداء الكبرياء.

3 – نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإن من تواضع لله رفعه.

4 – ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف مما يعجله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرئاسات والحرص على الشرف، ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية، قال الله تعالى: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ))، وقال: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا))، وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: (أنا العزيز فمن أراد العزة فليطع العزيز، ومن أراد عز الدنيا والآخرة وشرفهما فعليه بالتقوى).

ويختم ابن رجب رسالته بالقول: “وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل به شرف الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه، وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقي على الفاني”.

ونختم بما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد»، وبقوله تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)) [النساء : 13 – 14].

والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة BDF من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا

ملوك الآخرة - الركن الدعوي - مجلة بلاغ العدد ٣٩ - المحرم ١٤٤٤ هـ
ملوك الآخرة – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٣٩ – المحرم ١٤٤٤ هـ

ملوك الآخرة - الركن الدعوي - مجلة بلاغ العدد ٣٩ - المحرم ١٤٤٤ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى