اليقين بتحقق النصر المادي وأثره على المجاهدين _ الركن الدعوي _ مجلة بلاغ العدد الرابع والثلاثون ⁨شعبان ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد ٣٤ - شعبان - ١٤٤٣

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

“لقد وعدنا الله بالنصر، ووعدنا بوش بالهزيمة، وسنرى أي الوعدين أصدق” [الملا محمد عمر، 1422هـ].

المجاهد في سبيل الله تعالى له نفس بشرية تحتاج زادا في مسيرها الشاق ومسيرتها البطولية في صراع الحق ضد الباطل والخير ضد الشر، ومن هذا الزاد الذي يؤثر بشدة في تصوره للمعركة وعطائه فيها ورؤيته لأبعادها يقينه بأن النصر حليف المؤمنين، وأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة.

والنصر في هذه الدنيا ينقسم إلى أنواع عدة؛ منها:

– نصر معنوي؛ كالانتصار على إغواء الشيطان، وعدم المبالاة بأذى الطغاة، والثبات على الحق، والتضحية رغم الأهوال، وظهور الحجة، ودحض الشبهة، والثناء الجميل، والقدوة الحسنة للأجيال، وازدراء الباطل..

– نصر مادي؛ كالتمكين في الأرض، والغلبة، والانتقام من العدو، وإسلام مشركين، ونجاة مؤمنين، وهلاك كافرين..

وكلا النصرين محبوبان للمسلم مركوزان في فطرته السوية، كما قال تعالى مخبرا عن حال المؤمنين: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ولئن كان النصر المعنوي أكثر ظهورا وملاحظة في مسيرة المجاهد في سبيل الله خلال مرحلة الضعف والقوة والاستضعاف والتمكين، فإن من المهم كذلك ملاحظة صور النصر المادي في المسيرة الجهادية المباركة، لعظيم شأنها وأهميتها في المعركة.

* أولا- بعض الأدلة التي تثبت تحقق النصر المادي:

الأدلة العامة التي تثبت حصول النصر للمؤمنين كثيرة جدا تؤكد نصر الرسل والمؤمنين في الدنيا والآخرة، ونصر الله لمن ينصره، وأن جند الله هم الغالبون، وأن العاقبة للمتقين، وأن الكافرين سيُغلبون، وأن الظالمين ما لهم من ولي ولا نصير، وأن الانتقام واقع للمجرمين..، وهي أدلة تشمل النصر المعنوي والنصر المادي.

ولكن هناك أدلة يظهر فيها معنى النصر المادي ويبرز واضحا جليا بألفاظ؛ مثل: الاستخلاف في الأرض، ووراثتها، وتمكين الدين، ومجيء النصر بعد تكذيب الكفار وإيذائهم المؤمنين، والظهور، وتعذيب الكافرين في الدنيا، وغلبتهم، وأخذهم، وهزيمتهم، وتدميرهم، ودخول الإسلام كل بيت، وبقاء طائفة من الأمة ظاهرة، وبلوغ ملك الأمة مشارق الأرض ومغاربها، والوعد بخلافة على منهاج النبوة.. وغير ذلك، ومن هذه الأدلة:

– قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

– قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).

– قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

– قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

– قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

– قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

– قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

– قال تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

– قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

– قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر» رواه أحمد بسند صحيح.

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» متفق عليه.

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» رواه مسلم.

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين، والنصر، والتمكين في الأرض» رواه أحمد بسند صحيح.

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة» رواه أحمد بسند حسن.

* ثانيا- بعض صور النصر المادي:

النصر المادي للمؤمنين ثابت في مسيرة البشرية، مستمر في أجيال التاريخ، وله صور عديدة؛ منها:

– النصر بالسنان؛ كيوم بدر.

– والتمكين في الأرض؛ كما حصل في المدينة النبوية.

– وإسلام كافرين؛ كدخول الناس في دين الله أفواجا.

– والنجاة من المجرمين؛ كعبور موسى عليه السلام ومن معه البحر.

– ونزول صنوف من العذاب والبلايا على المشركين فتشفى بذلك صدور قوم مؤمنين؛ كإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على فرعون وقومه.

– وإهلاك المجرمين؛ كما حل على قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام من الغرق والريح والصاعقة والصيحة والرجفة والخسف والرجز، وكهزيمة الفرس على يد الروم..

وهذا النصر المادي المتيقن قد يجريه الله جل وعلا على يد المؤمنين وقد يجريه على غير أيديهم، وسواء حل وأحدنا يراه أو حل دون أن يدرك زمانه أو مكانه، فهو قادم لا محالة، فكل ما في الكون يجري بأمر الله وحكمته جل وعلا، قال ابن كثير في تفسيره: “المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم”..

والمؤمن يرى ما حل بالسابقين من الكافرين موقنا أن مثله سيحل بلاحقيهم، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).

وحول هذه المعاني قال الطبري في تفسيره: “إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما:

1 – بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من المُلْك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذّبه من قومه.

2 – وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك.

3 – أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم”.

وإن من يتأمل الواقع المعاصر للمسلمين خلال المائة سنة الأخيرة يجد أنه رغم المآسي التي تحل بنا فإن نصر الله والحمد لله يتنزل بصور عديدة:

– فكم من غزوة ومعركة انتصر فيها المجاهدون في مشارق الأرض ومغاربها ونكلوا فيها بالكافرين؛ كما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين والشيشان والصومال ومالي والجزائر والبوسنة والفلبين وكشمير وليبيا..، وغيرها من بلاد الإسلام التي سطر فيها المجاهدون أروع معاني البطولة ضد الاحتلال البريطاني والفرنسي والأمريكي والإسرائيلي وعملائهم عبر قرن من الزمان..

– وكم دخل كفار في دين الله أفواجا، وازداد انتشار الإسلام في عقر ديار الكفر وفي قلب أمريكا وأوربا بفضل الله جل وعلا..

– وكم أنجى الله المستضعفين من براثن المجرمين فخرج أسرى وحُفظ مطاردون وأمن أناس رغم أنف الطغيان..

– وكم نزلت صنوف البلايا على الكافرين من زلازل وأعاصير وأوبئة وعقم وأمراض..

– وكم أهلك الله منهم بغير سبب منا؛ فعشرات ملايين من قتلى المشركين في الحرب العالمية الثانية، وعشرات الآلاف من قتلاهم في الحرب الفيتنامية، وملايين المنتحرين من أفرادهم، وقتلهم أجنتهم في بطون أمهاتها بالإجهاض..

 

* ثالثا- أثر اليقين بتحقق النصر المادي على المجاهدين:

إن اطمئنان قلب المؤمن بتحقق النصر المادي في الدنيا مهما بلغت قوة الكافرين واشتد أذاهم وضاقت بالمؤمنين الحيل، يجعله:

1 – يحرص على القيام بأسباب النصر الشرعية؛ كالإيمان، والتقوى، والصبر، والثبات، والتوكل على الله، ونصرة دينه، وذكره سبحانه، والاعتصام بحبله، وعدم التفرق عن سبيله، والرحمة بالمؤمنين، وإعداد العدة المستطاعة، والإصلاح، والشورى..، فهذه صفات جاء الوعد بنصر أصحابها، وتحقُّق الشرط سبب لتحقق المشروط، ويعفو الله عن كثير من الزلل والخطأ برحمته سبحانه.

2 – يصبر في طريق سيره إلى الله جل وعلا مهما كانت العوائق التي يضعها أولياء الشيطان في طريقه، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، فاليقين بوعد الله يُكسب المجاهد الصبر، فهو يرجو تحقق وعد الله للأمة المسلمة في مجموعها ويضحي بنفسه طلبا لرضا الرحمن لا للتنعم بالدنيا عند إقبالها يوم النصر الموعود.

3 – يثبت على الحق أمام ضغوط الجاهلية وفتنها وشبهاتها وشهواتها، لا يقيل ولا يستقيل، لا يبدل ولا يغير، خلافا لمن لا يملك اليقين بتحقق النصر فإن ذلك قد يؤدي به إلى تشوش العقل واضطراب النفس وحيرة التفكير والتقلب في أودية التجارب الأرضية الفاشلة، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، قال ابن كثير في تفسير الآية: “من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة”.

4 – يكثر من التوبة: فتأخر بعض النصر وحصول بعض الهزيمة هو بما كسبت الأيدي، كما قال جل وعلا: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فاليقين بالنصر يجعل المرء يفتش دوما عن الخلل في النفس ويطهرها ويزكيها حتى يكون أهلا لتنزل المنن والمنح.

5 – يزداد استشعارا بنعم الله ومدده: فهو يشاهد مسيرة النصر عبر الأجيال، ويرى أنواع النصر في نفسه ونفوس المسلمين وأنواع الهزيمة في نفوس أعدائه وأعداء المسلمين، ويلحظ صنوف الانتقام الرباني من المجرمين، ويتأمل حِكم الله جل وعلا في قضائه وقدره.

6 – يقوي رابطة الولاء والبراء: فتنزل النصر على الأخ المسلم في أي صقع من أصقاع الدنيا هو نصر لأخيه، وهزيمة عدو المسلمين في مشرق أو مغرب هو هزيمة لعدوه، فالمعركة واحدة والعدو واحد؛ هي معركة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ ففتح القسطنطينية بالأمس يخفف جراح الأندلسي الذي سقطت دياره يومها، وتمريغ المجاهدين لأنوف النصارى في أفغانستان اليوم يخفف جراح المسلمين الذين اعتدى عليهم الهندوس في أراكان..، وهكذا يرى المؤمن النصر المادي أمامه عيانا بيده أو بيد إخوانه.

* رابعا: محاذير تخدش اليقين بتحقق النصر المادي:

1 – الاستعجال: وذلك باستثقال التكاليف والبحث عن نصر مادي سريع قبل أن يقوم المرء بإكمال واجبات مرحلته وعلى خلاف سنن الله في الكون، وهو استعجال قد يؤدي للتضجر ويُضعف الصبر.

عندما اشتكى خباب بن الأرت رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: “ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا”، جاء الجواب النبوي التفاتا من الدعاء إلى الإرشاد للصبر وعدم الاستعجال انتظارا للفرج التام القادم لا محالة، فرغم أن الدعاء مشروع ومن أسباب النصر، ولكن الجواب جاء تنبيها لأمر قد لا يلتفت له كثيرون وهو خطأ الاستعجال وضرره، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» رواه البخاري.

يقول سيد قطب: “وقد يبطئ هذا النصر أحيانا -في تقدير البشر- لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله، والله هو الحكيم الخبير، يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته، وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف، ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين”.

2 – التواكل: وذلك بأن يترك المرء العمل للإسلام والدفاع عن الحرمات والوقوف ضد المظالم بلا عذر شرعي؛ اتكالا على أن سنة الله ماضية بأن العاقبة للمتقين وأن كيد الكافرين في تباب وأن البغي يصرع أهله..، وهذا الفعل إهلاك للنفس بترك الواجب والوقوع في معصية الدخول في زمرة الخوالف، وصاحبه ممن قال الله فيهم: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).

3 – الجزم بأنه ستتنزل صورة محددة من النصر المادي في واقع معين وزمان ومكان مخصوصين بلا دليل: فتجد في عصرنا من يجزم ويقسم بأن المجاهدين سينتصرون في معركة كذا وكذا، ويبالغ بعضهم فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا!!، وفي الغالب لا يحصل ما أقسموا عليه ويتبين أنه ما دفعهم لذلك إلا الغرور لا حسن الظن بالله، وحجتهم دوما ما ذكره ابن القيم عن ابن تيمية في قوله بمدارج السالكين: “ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة..، أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تُكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام، وأن كلَب الجيش وحدته في الأموال، وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة. ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا، فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك، قال: فلما أكثروا علي، قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو. وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر”، وهذا نص فيه إشكاليات عديدة وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الأنبياء، فالحديث عن أن جيوش المسلمين تُكسر وأن العدو يدخل دمشق قبل بدء المعركة يُخشى أن يكون فيه إضعاف للهمم، والجزم بعد ثلاث سنين بالنصر وأنه مكتوب في اللوح المحفوظ لا يقال مثل ذلك بالفراسة كما علله ابن القيم، فالفراسة في مثل ذلك تكون للاستئناس لا الجزم، وأقرب ما يمكن التخريج عليه في جزمه بالنصر أنه من باب الإقسام على الله تعالى ممن هو من خيرة علماء ذاك الزمان -مع تكلف هذا التخريج، فالإقسام على الله جل وعلا ممن لم يرد نص بأن الله يجيب إقسامه لا يقتضي الجزم بحصول الإجابة-.

وبالعموم، فلم يكن من هدي السلف ولا الخلف الإقسام على الله بالنصر المعين في واقعة معينة إلا ما ندر، ومع ذلك فليس هذا هو الحال الأكمل دائما، بل الأكمل هو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم من شدة التضرع والدعاء عند المعارك، وقد وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: «فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه» رواه مسلم.

وقد أصيب المسلمون يوم أحد بمصاب عظيم، وفي الجيش خيرة الأمة، بسبب معصية قلة قليلة من الجيش، مما يدل على أن الأصل عدم الجزم بمآلات محددة في وقائع معينة، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

وعندما وعد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بدخول مكة والاعتمار بالبيت لم يكن وعدا متعلقا بيوم وزمن محدد تفصيلا، ولذلك عندما عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع مشركي مكة ولم يعتمروا في عام الحديبية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: “أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟” فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟»، قال: “لا”، قال صلى الله عليه وسلم: «فإنك آتيه ومطوف به» رواه البخاري، وهو ما تحقق بعدها بسنة في عمرة القضاء.

* أسأل الله جل وعلا كما أقر أعيننا بنصر المجاهدين في أفغانستان أن يقر أعيننا بمزيد نصر وتمكين وعز للإسلام والمسلمين.

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٤ شعبان ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى