الأسير (٨) – #الواحة_الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٥٢ – صفر ١٤٤٥هـ⁩⁩⁩⁩

الأستاذ: غياث الحلبي

لم يكن هاني يعرف ما بصم عليه في آخر مرة خرج فيها إلى التحقيق، هو يعرف فقط أن المحقق قدم له مجموعة من الأوراق وأمره أن يضع عليها بصمته أولا ثم يعقبها بتوقيع، قائلا له: هذه اعترافاتك التي أدليت بها دون إكراه ولا تعذيب ثم قهقه بصوت عالٍ، ولما همّ هاني بقراءتها شعر بصفعة قوية على قفاه

ــ أتريد أن تقرأ يا عر.. أتظن أنا نفتري عليك؟

وسارع هاني إلى التوقيع ووضع بصمته فهو لا يريد أن يجعل نفسه كرة بين أرجل هؤلاء الأوغاد يتقاذفونها كيف شاؤوا، ثم إن الأمر لا يعدو شكليات لا قيمة لها فالقضاء لا ينظر إلى الأدلة ولا يلتفت إلى القرائن إنما هو الهوى المحض الذي لا تشوبه شائبة حق

ومع أن هاني كان واثقا أن المحقق قد أضاف إلى اعترافات هاني أمورا لم تحدث قط إلا أنه شعر بسعادة لأمرين:

الأول: انتهاء التحقيق وهذا يعني الاستراحة من حفلات التعذيب التي تصاحب التحقيق

والثاني: أنه لم يورط أحدا معه وكل الأسماء التي ذكرها كانت لشهداء قتلهم النظام عندما دخل القرية

عاد هاني إلى زنزانته دون كبير ضرب هذه المرة ــ مقارنة بالمرات السابقة ــ وكما هو معتاد استقبله الصيدلي ليسأله عما جرى له فلما قص عليه الخبر هنّأه الصيدلي بانتهاء التحقيق وقال له: هذا يعني أن أيامك هنا صارت معدودة وأسأل الله أن يختار لك الخير

ـــ ماذا تعني؟ هل سأخرج؟

ـــ نعم، فقد انتهى التحقيق، وسيتم نقلك من هنا

ــ إلى أين؟

ـــ أنسيت أني لست مدير السجن ولا مسؤول الفرع

ـــ نعم، ولكن كما يقال صاحب الحاجة أرعن، إلى أين تتوقع أن ينقلوني

ـــ لا أعلم، لكن الخير دائما في ما اختاره الله

ـــ أشعر أنك تحاول أن تكتم عني شيئا، أرجوك أخبرني، هل سيأخذونني إلى صيدنايا؟

في الحقيقة كنت أتحاشى النطق بذلك ولكن بما أنك ذكرته فهو متوقع جدا بل هو الغالب

شعر هاني أن تيارا كهربيا سرى بجسده عندما سمع ذلك، فهذا أسوأ جحيم في الدنيا يمكن أن ينقل إليه السجين وأخذت تطوف برأسه الحكايات التي سبق وسمعها عن هذا المسلخ البشري، لقد رأى هنا ألوانا من العذاب ولكنها لا تقارن بما قيل له عن الأهوال في ذلك المكان المريع، استعاذ هاني بالله من الخواطر التي أخذت تدور في رأسه وشرع يقرأ بعض الآيات القرآنية عله يجد فيها السكينة ويشعر قلبه ببعض الطمأنينة.

مضت تسعة أيام كانت الخواطر السوداء تتقاذف هاني ولا يكف عن التفكير في المكان الذي سينقل إليه ويتراءى لعينيه شبح صيدنايا المرعب وخلف أسواره الشاهقة وفي ممراته الكئيبة آلاف السجناء الذين لا ينقطع صراخهم ألماً ليل نهار.

قطع هذه الأفكار طرق السجان على الباب ومناداته بضعة أرقام فالأسماء لا وجود لها هنا، وكان من ضمن الأرقام رقم هاني وطلب السجان إلى أصحاب الأرقام أن يجمعوا أغراضهم ويستعدوا.

الخوف من القادم منع هاني من التفكير في معنى قول السجان “أن يجمعوا أغراضهم” وهم ليسوا سوى هياكل عظمية مكسوة بغشاء رقيق من الجلد وعليها أسمال مهلهلة ما تكشفه أكثر مما تستره

خفق قلب هاني بشدة وهو يُسلسَل مع مجموعة من السجناء في جنزير حديدي طويل ثم يُصعدون إلى سيارة مغلقة معدة لنقل السجناء وتدعى “سيارة اللحمة”.

حشر السجناء حشرا في تلك السيارة وتكدس بعضهم فوق بعض ثم سارت بهم كان السجناء في كرب شديد وأقصى طموحاتهم أن تنقلب السيارة وتسقط في أحد الوديان ليموتوا جميعا، أو تسقط قذيفة آتية من المناطق المحررة لتحيل السيارة بمن فيها إلى قطع وأشلاء، الموت أمنية عزيزة لدى هؤلاء السجناء.

الجو خانق جدا داخل السيارة شعر السجناء بأنهم سيموتون اختناقا الأوكسجين على وشك النفاد وطاقة التهوية صغيرة جدا لا تسمح بتعويض ما يستهلك منه، وزاد الأمر سوءا أن بعضهم تقيأ وبعضهم اضطر إلى البول مكانه بعد طول مدافعة

وأخيرا وبعد عدة ساعات شعر السجناء أنها قرون متطاولة وصلت السيارة إلى المكان الرهيب “سجن صيدنايا” القسم الأحمر وهو شر قسميه القسم الأبيض يلى قبحه يعتبر نزهة مقابل هذا القسم.

رمي السجناء على عجل في مكان الاستقبال، وسارع الزبانية باستقبالهم بالعصي والأنابيب الخضراء المعروفة باسم “الأخضر الإبراهيمي” ثم أخذت بياناتهم وبدأ أحد الضباط يتلو عليهم التعليمات

ــ كل شيء هنا ممنوع، الكلام ممنوع، الصلاة ممنوعة، الصيام ممنوع، النظر إلى وجه السجانين ممنوع يجب أن تبقوا دائما مغمضي العينين ناكسي الرؤوس، لا حقوق لكم هنا، أنتم مجموعة من الإرهابيين ويجب أن تموتوا ولكن بطريقة بطيئة لأن إطلاق النار على رؤوسكم مباشرة فيها راحة لكم، ونحن لا نريدكم أن ترتاحوا، لن يخرجوا من هنا أبدا، ستبقون حتى تموتوا والمحظوظ منكم من يموت سريعا، السجان له الحق المطلق في أن يفعل ما يشاء باختصار أهلا وسهلا بكم في جهنم، سننسيكم حليب أمهاتكم.

وبعد انتهاء خطبة الضابط العصماء عاد السجانين لمتابعة عملهم في الضرب والركل والرفس والعفس واللكم والجلد وتكسير الأسنان وشج الرؤوس ثم الشبح لعدة ساعات قبل توزيع السجناء الجدد على المهاجع والزنازين حتى يصلها السجين محطما نفسيا وجسديا.

فرز هاني إلى أحد المهاجع ولما دخله لم يجد مكانا له إلا قرب دورة المياه التي تنبعث منها الروائح الكريهة فتزيد السجين ألماً على ألم.

 هنا لم يعد هاني يفكر في أهله أو ولده أبدا لقد شغل بما هو فيه عنهم، لقد نسيهم في خضم المعاناة والمقاساة الشديدة، هموم السجناء تنحصر في تفادي سياط السجان عند إدخال الطعام أو إخراج القمامة، أو الحصول على حصة من الطعام تسكت قليلا كَلَب الجوع، أو الحرص على الابتعاد عن المصابين بالجرب أو الأمراض الجلدية اتقاء للعدوى، أو الالتزام بالتعليمات للابتعاد عن غضب السجان الذي لا يسكن إلا بعد هيجان كالثور يسقط فيه عدد من السجناء مثخنين بجراح أشد من جراح المعركة وكثيرا ما يُقتل سجين أو أكثر، والسجناء هنا يعيشون تحت رحمة أمزجة السجانين المتقلبة فإذا كان السجان غاضبا فلا يسكن غضبه إلا رؤية الدم، وإذا كان يشعر بالملل فلا تسلية له إلا تعذيب السجناء والتهكم بهم وأمرهم بتقليد حركات الحيوانات وأصواتها، وأمر بعضهم بضرب بعض.

التعذيب هنا للتعذيب وبالتالي فالنجاة منه ليست إلا كنجاة السابح من الابتلال بالماء، أو السائر في حمّارة القيظ من لفح الشمس.

شعر هاني باليتم فقد كان وجود الصيدلي بقربه يؤنسه ويخفف عنه بعض مصابه، إنه هنا وحيد تماما غريب تماما حتى أنه لا يود أن يتعرف إلى أحد ولا أن يتحدث إلى أحد حالته النفسية متردية جدا، ألقى رأسه بين ركبتيه وأرسل عينيه بالدموع ونشج كثيرا حتى شعر ببعض الراحة.

السجن هنا رهيب حقا فشدة احتياج المرء إلى ضرورات الحياة تجعله أنانيا، وتفقده مبادئه وكثرة القهر تحيله عدوانيا على الضعفاء من أمثاله فقط، لذلك يتعجب هاني عندما يرى بعض السجناء تحولوا إلى عملاء للسجانين فصاروا يستطيلون على سائر من في المهجع ويضربونهم ويسرقون أو يغصبون نصيبهم من الطعام، كان يحتقرهم بشدة فكيف للمرء أن يجعل نفسه عبداً لسجانه الذي غصبه حريته وأذاقه ألوان العذاب؟

 كيف يقبل أن يصير عميلا لعدوه الذي امتهن كرامته وعامله معاملة شرا من معاملة الكلاب الشاردة؟

 كيف يرضى أن يبيع دينه ويخيس بعهوده، ويتحول من ثائر مجاهد إلى شبيح حقير وضيع؟

كيف ينسلخ عن مبادئه فيحول غضبه إلى إخوانه ورفاق دربه الذين يشاركون الألم والعذاب فيفرغه عليهم ويشي بهم إلى عدوهم وينقل أخبارهم إلى السجانين المجرمين؟

كيف يرتضي وضاعة الجاسوسية بعد أن أقسم على الثأر للدين والكرامة والشهداء والحرية؟

إذا هذا الوضع جعل هاني يقسم السجناء في ذهنه إلى فريقين فريق الأعداء وهم العملاء للسجانين وفريق الأصدقاء وهم سائر السجناء المستضعفين الذين اجتمع عليهم إجرام النظام خارج الزنزانة وإجرام عملائه داخلها فصاروا السجن سجونا كثيرة ظلمات بعضها فوق بعض.

الطعام هنا على بشاعة مذاقه، وقبح طعمه قليل جدا، لا يكفي لإقامة الأود ومع ذلك يتفنن السجانون في استخدامه لتعذيب السجناء فتارة لا يوزع عليهم حتى يفسد وينتن، وأخرى يذر عليه التراب والأوساخ، وثالثة يترك مرميا على الأرض حتى تنال منه الجرذان حاجتها منه وتغزوه فئام من مختلف أنواع الحشرات الزاحفة والطائرة، وهو إلى ذلك ليس فيه ذرة ملح.

كان السجناء في المساء ينتظرون الصباح فإذا أصبح انتظروا المساء وعلهم يجدون في تعاقب الملوين فرجا ومخرجا كأنهم يتمثلون قول امرئ القيس

وليل كموج البحر أرخى سدوله … علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطي بصلبه … وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي … بصبح وما الإصباح منك بأمثل

لا يعرف هاني كم سيمكث في هذا المكان الموحش، ولكنه كان يأمل ألا يطول به المقام هنا المهم أن يخرج من هنا ولو إلى القبر فهو لا شك خير من صيدنايا.

كان الأمل عزاء السجناء، يجدون فيه عزاء وسلوانا

أعلل النفس بالآمال أرقبها… ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

لتحميل نسخة من مجلة بلاغ بصيغة BDF اضغط هنا

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى