الأسير (4) – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٨ – شوال ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩⁩

الأستاذ: غياث الحلبي

أتم هاني اليوم شهرا كاملا في هذا الفرع يعدها يوما يوما وساعة ساعة، وفي صباح اليوم الواحد والثلاثين كان هاني يصلي الضحى بعينه عندما طرق باب الزنزانة السجان وطُلب من السجين 231 أن يجهز نفسه.

اصفر وجه هاني وازدادت ضربات قلبه حتى كأنه يود أن يقفز من قفصه الصدري.

التفت إليه الصيدلي وقال:

– هيا، حان الوقت، لا تخف وتذكر ما أوصيتك به جيدا، ليحفظك الله ويكن معك.

نهض هاني ورجلاه لا تكاد تحملانه، عشرات الأفكار تتضارب في رأسه، جف حلقه، وهنت قوته، شعر أنه على وشك السقوط.

وقف بالقرب من الباب ينتظر أن يفتحه السجان ليقوده إلى المجهول.

فُتح الباب ونادى السجان:

– أين الحيوان 231.

– ها أنا سيدي.

– تعال يا حيوان، سوف أنسيك حليب أمك، ثم دوت صفعة على وجه هاني لم يستفق من هولها حتى كانت أخرى تحط على الجانب الآخر من وجهه.

– نظرك إلى الأرض يا حيوان، ممنوع النظر إلي.

فيطرق هاني برأسه إلى الأرض ويتنازعه شعوران؛ شعور الغضب على هذا السجان التافه الحقير الجاهل الذي يتطاول على خيرة الشباب، وشعور الخوف من المجهول القادم الذي ينتظره.

ناول السجان هاني عصابة وأمره أن يضعها على عينيه ثم أمره أن يضع يده خلف ظهره، وسرعان ما وضع فيهما القيد، ثم أمسك به من عنقه يقوده، وسار شيئا قليلا ثم صعد به عددا من الدرجات، ثم خطا بضع خطوات وأمره بالوقوف.

سمع هاني صوت السجان يخاطب شخصا ما قائلا:

– أحضرته سيدي.

– هل عصبت عينيه وقيدته؟

– طبعا سيدي.

– انزع العصابة عن عينيه وأوقفه عند باب غرفة التحقيق وامض لعملك.

– حاضر سيدي.

– اقترب السجان من هاني وقاده إلى باب غرفة التحقيق ثم نزع العصابة عن عينيه.

ورأى هاني وجه السجان مجددا، ولكنه هذه المرة لم يضربه وإنما اكتفى بقوله: عينك في الأرض يا حيوان.

كان هذا السجان في العقد الثالث من عمره أسمر اللون ضيق العينين تدلان على لؤم شديد، عريض الجبهة كبير الأنف والفم إلى القصر أميل، تنبئ تقاسيم وجهه عن غباء شديد، وهذه صفة سيجدها هاني في معظم السجانين الذين سيقابلهم لاحقا، ويبدو أنها صفة ضرورية فيهم كي يكونوا أشبه بالآلات الصماء التي تنفذ ما تعطاه من الأوامر دون نقاش أو تفكير، وكثيرا ما تساءل هاني: أهؤلاء بشر مثلنا؟ هل عندهم مشاعر وأحاسيس؟ هل تشتمل قلوبهم على شيء من العواطف؟

بعد أن مضى السجان نظر هاني حوله ففهم لماذا نزعت العصابة من عينيه، فلقد كان هناك عدد من السجناء المعذبين بأساليب مختلفة؛ رأى أحدهم وهو معلق من يديه وبالكاد تلامس رجلاه الأرض، ورأى آخر ملقى على الأرض والدماء تسيل من عدة جروح من جسده وقد تضخمت رجلاه بشكل غريب، ورأى ثالثا موضوعا في عجلة شاحنة وهو لا يستطيع حراكا.

كان صراخ المعذبين في غرفة التحقيق يصم الآذان، وأحس هاني وهو واقف أن كل ثانية دهرا طويلا، وكان العذاب النفسي الذي يتعرض له يفوق الاحتمال، ودوره هو التالي، كاد مرارا أن يسقط على الأرض ولكنه تماسك خشية الأسوأ، وتمنى من أعماق قلبه أن يموت قبل أن يأتي دوره أو يغمى عليه ليغيب قليلا عن هذا الواقع الذي بلغ الغاية ألما.

وبعد وقت لا يدري هاني كم هو ولكنه شعر كأنه سنين طويلة، سمع هاني صوتا من غرفة التحقيق يناديه ويأمره بالدخول.

دخل هاني وهو يحاول أن يخفي الرجفة التي تعتري جسده، كانت الغرفة واسعة جدا وفي صدرها مكتب أنيق عليه حزمة من الأدوات الكتابية، وخلف المكتب كرسي فاخر يجلس عليه المحقق الذي كان يرتدي نظارة سوداء تخفي نصف وجهه ويتأنق جدا في ملابسه وتنبعث منه رائحة عطر ثقيلة، وفي أرجاء الغرفة ألقي رجلان يئنان من شدة الألم بعد وجبة التعذيب الهائلة التي تلقياها قبل قليل، ولم يحتج هاني إلى كبير جهد ليعلم أنه كان يسمع صوت هذين المسكينين قبل قليل.

كان هناك خلف المحقق شخص ضخم الجثة يقف وبيده كبل رباعي، والشرر يتطاير من عينيه، وملامحه تقول إنه قُدَّ من العنف والقسوة، فتحاشى هاني النظر إليه ورمى ببصره إلى الأرض.

وجاءه صوت المحقق غليظا بأسلوب متهكم:

– ماذا يا هاني؟ أتعترف أم..، وأشار بيده إلى الجلاد خلفه.

لقد ناداه باسمه هاني ولم يقل يا 231، ويبدو أن الأمر في التحقيق مختلف.

– أعترف سيدي، أعترف.

– تمام، هكذا توفر العناء علي وعلى نفسك.

– تفضل الآن اعترف.

– بماذا سيدي؟

– هكذا من البداية، أتريدني أن أستخدم معك أسلوبا آخر؟

– لا، أبدا سيدي، ولكن فقط قل لي: بماذا أعترف، وسأذكر لك كل شيء، ولن أكذب عليك في حرف واحد.

– اسمع، أنا صبري قليل ولا أحب اللف والدوران، فإما أن تعترف الآن بكل شيء وإما أن تلقى مصيرا كمصير هذين، وأشار إلى السجينين في أرض الغرفة.

احتار هاني فهو أمام شخص لا يمكن التفاهم معه، ومع ذلك فالسلطات الآن كلها بيديه، ماذا يفعل؟ إن ذكر الحقيقة سيتعرض للتعذيب، وإن اعترف بأشياء لم يفعلها فسيقضي على مستقبله نفسه، وحاول هاني أن يمسك العصا من المنتصف فبدأ بالحديث عن مولده وقريته ودراسته وعمله.

استمع المحقق لمدة ثلاث دقائق ثم أشار إلى الجلاد فهوى بالكبل على ظهر هاني، فأطلق هاني صرخة قوية وسقط أرضا.

– انهض يا حيوان، أتظن أنك في بيت أمك، أتريد أن تضيع الوقت بالحديث عن حياتك التافهة؟ أنت هنا مجرد حشرة لا قيمة لك، اعترف كم عملية نفذت ومن هم شركاؤك؟

– والله يا سيدي لم أقل إلا الصدق، وليس لي علاقة بأي شيء.

– سنرى الآن.

وأعطى المحقق إشارته مجددا للجلاد، فانهال بضربات متتابعة على جسد هاني دون تمييز، وكان هاني يصرخ بشدة والمحقق يشتمه بأقذر ألفاظ الفحش، والجلاد يتابع ضرباته غير عابئ بشيء.

وأخيرا صاح هاني: سأعترف سأعترف، أرجوكم.

وأعطى المحقق إشارته ليتوقف الجلاد ثم قال:

– ألم يكن من الخير لك أن تعترف دون أن تعرض نفسك للإهانة.

– والله يا سيدي سأعترف بأشياء لم أفعلها لأخلص من الضرب فقط.

– تقصد أننا نكرهك وأنت بريء؟ أنت مجرم ونحن نعرف كل شيء عنك حتى ثيابك الداخلية نعلم مقاسها ومن أين تشتريها.

– إذا كنتم تعرفون كل شيء، فلماذا أعترف؟

– هذا ليس من شأنك يا حيوان، وأعطى الجلاد الإشارة مجددا لتلسع سياط الجلاد جسد هاني.

– سأعترف بالحقيقة، لقد شاركت بالمظاهرات.

– كم عدد المظاهرات التي شاركت فيها؟

– ثلاثة.

– ماذا كنتم تهتفون؟

– الله، سوريا، حرية، وبس.

– الحرية التي أعطاكم إياها سيادة الرئيس ألم تعجبكم يا ناكري المعروف، لا يوجد بلد في العالم كله يتمتع بالحرية مثل سوريا، والآن أرجو أن تعجبكم الحرية هنا.

– وماذا كنتم تهتفون أيضا؟

– هي لله، هي لله، لا للسلطة ولا للجاه.

– تريدون السلطة لأنفسكم يا مندسين، سيادة الرئيس انتخبه واختاره الشعب يا كلاب.

– وماذا أيضا؟

– فقط سيدي، هذه هي الهتافات.

– ألم تكونوا تهتفون بإسقاط النظام.

– أعوذ بالله يا سيدي.

وأشار المحقق إلى الجلاد فسارع هاني ليقول:

– نعم، نعم، كان بعض الناس يهتف بذلك، ولكني أقسم أني لم أكن أهتف بذلك.

– من هو المسؤول عن ترتيب المظاهرة؟

– لا أعلم، أنا كنت أتظاهر فقط.

وانهال الجلاد ضربا على هاني، وأخذت الأفكار تتضارب في رأسه، ماذا أفعل؟ أأورط بريئا ثم أدخل في دوامة لا تنتهي أم أموت تحت التعذيب، ليت ذلك يكون، ولكني غير قادر على التحمل، ويبدو أن شدة التعذيب أوحت لهاني بفكرة ما، فأخذ يسرد أسماء عدد ممن رآهم قتلوا في المجزرة التي جرت في قريته، وكان المحقق سعيدا وهو يدون الأسماء، وشعر أنه ظفر بكنز عظيم.

يتبع في العدد القادم إن شاء الله. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى