النصر بالرعب – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٤
الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا نصره بالرعب مسيرة شهر، قال صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» متفق عليه.
قال ابن حجر في فتح الباري مفسرا «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»: “الظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا؛ لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر..، وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو”.
وقال السندي في حاشيته على المسند موضحا الفرق بين الرعب الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم والرعب الذي قد يحصل لبعض الجبابرة: “قذف من الله في قلوب الأعداء بلا أسباب ظاهرية وآلات عادية له، بل بضدها فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يربط الحجر ببطنه من الجوع ولا يوقد النار في بيوته، ومع هذه الحال كانت الكفرة في خوف شديد من بأسه صلى الله عليه وسلم مع ما عندهم من المتاع والآلات، فلا يرِد أن الناس.. يخافون من بعض الجبابرة مسيرة شهر وأكثر، لكن ذلك مع الأسباب”.
وقال الماتريدي في تفسيره مؤكدا أن هذا الرعب الذي يلقى في قلوب أعداء النبي صلى الله عليه وسلم هو من الآيات المعجزة: “ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمحاربة، مع كثرة شوكتهم، وقلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا فعله بالمجرمين، وفي إلقائه الرعب ألطف آيات رسالته، وأبين حجة عليها؛ إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال وقذف في قلوبهم الرعب، أمر سماوي لا غير”.
* هل النصر بالرعب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم تدخل فيه أمته:
تعددت أقوال العلماء في ذلك، والظاهر أن كمال النصر بالرعب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن للأمة نصيبا من هذا النصر المتحقق بسبب الرعب على قدر التزامهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وثباتهم على الصراط المستقيم، قال النيسابوري في تفسيره: “الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء..، سنلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان”.
وقال ابن بطال في شرح البخاري: “قال المهلب: قوله: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ» هو شيء خصه الله وفضله به، لم يؤته أحدًا غيره، ورأينا ذلك عيانًا، أخبرنا أبو محمد الأصيلي، قال: افتتحنا برشلونة مع ابن أبي عامر، ثم صح عندنا بعد ذلك عمن أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهارًا، وصاروا على صورها، وهي على أكثر من شهرين”.
وقال السندي في حاشيته على النسائي: “وقد بقي آثار هذه الخاصّة في خلفاء أمته ما داموا على حاله”.
وقال المعافري في شرح الموطأ: “النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»، والمسلمون ينصرون بعده على قدر طاقتهم، فإذا كان الغلول ذهبت هذه الفائدة عنهم وانعكس النصر عليهم، كما أنه إذا فشا فيهم الزنا كثر فيهم الموت؛ لأنهم طلبوا تكثير الوجود من غير طريق الشرع فسلَّط الله تعالى عليهم الفناء، كما أنهم إذا كفروا نعمة الله تعالى في الميزان الذي هو عيار الأموال طلباً لنمائها بالمعصية عاقبهم الله تعالى بأن سدَّ عليهم باب الرزق من السماء..، كما أنهم إذا حكموا بغير الحق فاستطالوا على الناس واستعدوا عليهم بالباطل سلَّط عليهم من يفنيهم مثله، كما أنهم إذا استعانوا على أعداء الله بنكث أيمان الله قلب الله الحال وحكم بغلبة العدو لهم”.
– ومما يدل على أن أمة الإسلام منصورة بالرعب على قدر التزامها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم:
– أن الله جل وعلا أخبر بأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب؛ لشركهم ولأنهم شاقوا الله ورسوله، وهذا حاصل منهم في كل الأزمان، قال تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)، وقال جل وعلا: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين النصر بالرعب وبين أخذه مفاتيح خزائن الأرض، وقد فسر أبو هريرة رضي الله عنه ما حصل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأنه استخراج لهذا الوعد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي» قال أبو هريرة رضي الله عنه: “وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا” متفق عليه، وتنتثلونها أي تستخرجونها.
– أن الله جل وعلا أمر بما فيه إرهاب الكافرين وبث الرعب بين صفوفهم كإعداد العدة، وقطع أشجارهم للمصلحة، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)، وقال جل وعلا: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
– أخبر الله جل وعلا أن المنافقين يرهبون الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام أشد الرهبة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: “ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإشارة إلى أنها رهبة جد خفية، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون، وما هم بتلك المثابة”.
– أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من العقوبات التي تتنزل على الأمة عند ابتعادها عن الصراط المستقيم نزع الهيبة التي كانت لهم في قلوب أعدائهم، مما يدل على أن الأصل وجود تلك الرهبة عند استقامة الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» رواه أبو داود.
* أمثلة لانتصار المسلمين بالرعب:
لقد كان انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب معلما بارزا في حياته صلى الله عليه وسلم، وكان انتصار الصالحين بعده بالرعب ظاهرة مهمة في تاريخ المسلمين، ومن تتبع ذلك وجد أثر هذا الرعب في مراحل تاريخية عديدة، وهذا ذكر عدد من الأمثلة تدل على أمثالها وأمثالها:
– كان النصر بالرعب ظاهرا في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حصل يوم بدر حين كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين؛ فقذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهزموا، كما قال تعالى عن هذه المعركة: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).
ويوم أحد خالف بعض الرماة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم فأصاب المشركون من المسلمين ما أصابوا ثم ارتحلوا قاصدين مكة، ثم هموا في الطريق بالعودة إلى المدينة لعلهم ينالون من المسلمين أكثر مما نالوا، ولكن عندما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم توجه للقائهم خافوا وعادوا لمكة.
وفي غزوة بني النضير قذف الله جل وعلا الرعب في قلوب اليهود حتى خربوا بيوتهم بأيديهم ونزلوا من ديارهم صاغرين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ).
وفي غزوة الأحزاب اجتمع للمشركين ما لم يجتمع لهم قبل قط من عدد وعدة وتحالفات، فهزمهم الله جل وعلا بالريح والرعب، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)، روى الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال عن الجنود التي لم يروها: “بعث الله عليهم الرعب والريح”.
وفي غزوة بني قريظة هزم الله جل وعلا اليهود بالرعب فاستسلموا لما حل بهم من القتل والأسر، قال تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا).
– بل إن الرعب والخوف من الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الأكاسرة والقياصرة في قصورهم بمجرد وصول رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره عما جرى له قبل إسلامه وهو: «أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، فَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ» متفق عليه.
وخرت له الأوثان طرا وأرعدت
قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
قال ابن كثير في البداية والنهاية: “لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، فبلغ جميع من آمن رجالا ونساء، الذين ركبوا معه سفينته، دون مائة نفس، وآمن بنبينا في مدة عشرين سنة، الناس شرقا وغربا، ودانت له جبابرة الأرض وملوكها وخافت زوال ملكهم ككسرى وقيصر، وأسلم النجاشي والأقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الأرض الجزية والإيادة عن صغار، أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأنذر دومة، فذلوا له منقادين، لما أيده الله به من الرعب الذي يسير بين يديه شهرا، وفتح الفتوح، ودخل الناس في دين الله أفواجا..، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح الله له المدينة وخيبر ومكة وأكثر اليمن وحضرموت، وتوفي عن مائة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى؛ فمنهم من أجاب، ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبر فخاب وخسر كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبر، فمزق ملكه، وتفرق جنده شذر مذر”.
– واستمر النصر بالرعب طوال عهد الخلفاء الراشدين؛ ففي أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه ارتد من ارتد من العرب فنصره الله جل وعلا بالرعب، قال ابن كثير في البداية والنهاية عن إرسال أبي بكر بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهم: “قال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزن جيش أسامة، وأمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة”.
وسارت الفتوحات مشرقة يومها ومغربة حتى بلغ الرعب في قلوب قادة الكفار أن سلسلوا جنودهم في السلاسل منعا لفرارهم، قال ابن كثير في البداية والنهاية: “جمع هرمز وهو نائب كسرى، جموعا كثيرة، وسار بهم.. وقد تقرن الجيش في السلاسل؛ لئلا يفروا.. وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل؛ لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس”.
وبالعموم قال ابن كثير في البداية والنهاية عن عهد الخلفاء الراشدين: “ثم فتح خلفاؤه من بعده، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي التالي على الأثر مشارق الأرض ومغاربها، من البحر الغربي إلى البحر الشرقي، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» وكذا وقع سواء بسواء، فقد استولت الممالك الإسلامية على ملك قيصر وحواصله، إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب”.
– وكانت جيوش المسلمين في القرون الأولى يسير الرعب بين أيديها فيهزم نفوس الكفار قبل أن تهزمهم سيوف المسلمين، قال ابن كثير في البداية والنهاية عن فتوح الدولة الأموية والعباسية: “قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه. فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده؛ بحيث إن ملوك تلك النواحي كلها تؤدى إليه الخراج خوفا منه…
ومسلمة بن عبد الملك بن مروان وابن أمير المؤمنين الوليد وأخوه الآخر يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يُعبد الله فيه، وامتلأت قلوب الفرنج منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم…
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بنى أمية، وفي أثناء خلافة بنى العباس مثل أيام المنصور وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند. وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها”.
– ثم وجدت المعارك الخالدة في تاريخ الأمة وسلاح الرعب مبشر بالنصر فيها؛ فهذه ملاذ كرد، والزلاقة، وحطين، والمنصورة، وعين جالوت، والقسطنطينية..، وغيرذلك كثير.
– وأما في العصر الحديث فإن سلاح الرعب من أظهر أسلحة المجاهدين الصادقين، وكم ظهر أثر ذلك وهم يجاهدون أعتى قوى الأرض من الروس والأمريكان والفرنسيين والإنجليز والإيطاليين والأسبان واليهود وغيرهم، بل إن الرعب من رجالات المسلمين بلغ أن تتآمر قوى الأرض كلها على حرب رجل مسلم هنا أو هناك، ومن نظر إلى سير أمثال: عمر المختار، وعز الدين القسام، وسيد قطب، والمودودي، وعبد الله عزام، وخطاب، وعمر عبد الرحمن، والملا عمر..، رأى كيف كان الرعب منهم يهز رؤساء ودولا.
– وسيبقى الرعب سلاح نصر بأيدي الصادقين إلى آخر الدنيا، حتى إنهم يفتتحون القسطنطينية يومها بالتهليل والتكبير، قال صلى الله عليه وسلم: «سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا» رواه مسلم.
* وختاما:
فإن الواجب على المسلمين عامة وطليعتهم المجاهدة خاصة أن يشكروا الله جل وعلا على نعمة المهابة التي وهبها الله جل وعلا لعباده المؤمنين، والرعب الذي يلقيه في قلوب أعدائهم الكافرين والمنافقين، وشكر النعمة يكون برعاية حق الله فيها، ومن حق هذه النعمة:
– إعداد العدة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ).
– ولزوم الطريق (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ).
– والثبات عند اللقاء (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).
– والحذر من أسباب نزع المهابة وحلول الوهن «وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
أسأل الله أن يستعملنا في طاعته ونصرة دينه وجهاد أعدائه، والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ