الجهادُ السِّياسِيُّ والجهاديَّةُ السِّياسِيَّة – مجلة بلاغ العدد ٧٠ – رمضان ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الجهاد في الإسلام على أنواع كثيرةٍ، يحصرها البعض في القتال ومتطلَّباته، ولا يصلون إلى قناعةِ أن الجهاد شاملٌ لكل جوانب الحياة إلا بعد كلفةٍ كبيرةٍ من التجارب والنكبات، فمنهم من يجمع هذا النوع إلى الأنواع الأخرى ويعمل بما تيسر له واستطاع، ومنهم من ينقلب على نفسه وتطرفه السابق بتطرفٍ جديدٍ في الاتجاه المعاكس، فيلغي جهاد الدعوة وجهاد القتال ليمارس حالة “الجهادية السياسية”، كما ألغى جهاد السياسة سابقاً ليمارس حالة “الجهادية القتالية” المحضة.
الجهاد السياسي من أهم أنواع الجهاد، فهو الذي يُصلح الشأن العام للناس، ويوجه نشاطاتهم، ويمكر بأعدائهم، ويخدم جهاد الدعوة وجهاد القتال، ليتحقق المطلوب بأقل كُلفةٍ ممكنةٍ، فالجهاد السياسي ليس حالةً تأتي وتذهب أو تتخذ منهجاً مجتزأً يطغى على غيره، بل هو عملٌ مستمرٌ لا يتوقف، منضبطٌ غير متفلتٍ، متكاملٌ غير مُنبَتٍّ، وهو عملٌ جليلٌ قام به الأنبياء والمقتدون بهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يتضح الفارق بين “الجهاد السياسي” كمصطلح و”الجهادية السياسية”، فالجهاد السياسي كما ذكرت أعلاه نوعٌ من أنواع الجهاد يُسهم مع الأنواع الأخرى في تحقيق مصالح الأمة، أما الجهادية السياسية فتخصيصٌ وحصرٌ وتضييقٌ وتحولٌ إلى السياسة المجردة عن أنواع الجهاد الأخرى وعن الضوابط الشرعية أيضاً، وفي الغالب يكون هذا عند تدجين الحركات والتنظيمات الجهادية من قبل الدول، إن كان بتسليمها السلطة أو جعلها قريبة من السلطة، أي أنها حالة من الاستقرار تُثَبِّطُ “الجهادي” عن السعي لتحقيق شعاراته وغاياته المعلنة، كي يعيش الواقع بما فيه، ويكون جزءاً عاطلاً منه، أو مبرراً مروجاً خادماً له.
وربما يكون الفارق بين الجهاد السياسي والجهادية السياسية، كالفارق بين المجاهد والجهادي، من حيث بساطة التركيب والدلالة، فالمجاهد كلمةٌ معناها شرعي عامٌّ مستقرٌّ، على عكس كلمة “الجهادي” التي تعبر عن حالةٍ مُتكلَّفةٍ يعتريها التنطع وتنكبها التقلبات، فالجهاد عملٌ تعبُّديٌّ يقوم به المسلم وليس ميزةً أو علامةً حصريةً، والجهاد السياسي ليس حالةً لصيقةً بفئةٍ محتكرةً لها، ولا عمليةً منحصرةً منغلقةً مضادةً لأنواعٍ أخرى من الجهاد ولفئات أخرى من المجاهدين.
في كتاب آرون واي زيلين “The Age of Political Jihadism” وترجمته: “عصر الجهادية السياسية”، بحث زيلين تحولات جبهة النصرة بقيادة الجولاني من تنظيمٍ جهاديٍّ قتاليٍّ بدأ بأفكارٍ متطرفةٍ، إلى تنظيمٍ له حكومةٌ ويتواصل مع الدول ويستعمل السياسة بمصلحيةٍ، بعد أن كان ضد السياسة ومن يمارسها، وزيلن باحثٌ بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى متخصص في الجماعات الجهادية “السُنِّية” في بلاد الشام وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل وأفغانستان.
أبرز ما طرحه زيلن في كتابه لتوصيف الحالة والمثال الذي ساقه:
تحدث عن تطور هيئة تحرير الشام من كونها تابعة لتنظيم دولة العراق وتنظيم القاعدة وعقيدة الجهادية العالمية، إلى السعي لبناء كيانٍ وطنيٍّ مصلحيٍّ “براغماتيٍّ”، وذكر مراحل التطور والأسماء المستعملة.
وذكر أثر الواقع المحلي في سوريا وتفاعلات هذا التنظيم معه، ومحاولة استحضار تجربة حماس وطالبان، مع إنشاء حكومةِ الإنقاذ للتركيز على إدارة منطقة سيطرةٍ وبناء نموذج، ترافق هذا مع تخفيض سقف الشعارات الأيديولوجية.
وانتقد الكاتب “الأفكار المتطرفة” التي بقيت تطرح عند الحاجة إليها من قبل الهيئة وتنظيمات تعمل معها، مع انتهاكاتٍ بحق المدنيين، وذكر أن هذا يشكل معضلةً استراتيجيةً لحكومات وخبراء الغرب، الذين يريدون أدلةً مقنعةً لرفع التصنيف عن التنظيم الذي لا تعبر قيادته عن كل ما فيه، حيث ظهرت انشقاقاتٍ وتباينات، وختم الكاتب أن المساءلة عن الممارسات والانتهاكات السابقة أمر لا بد منه، وكلام زيلن يعبر عن الحقيقة فهذه الشَّماعة أو المناط وسيلةٌ دوليةٌ للضغط طلباً للتنازلات أو الإنهاء، في الوقت الذي يناسب رأس النظام الدولي.
وهكذا تجد الكثير من الباحثين يستحضرون هذا المثال عن “الجهادية السياسية” عند الحديث عنها، كما يستحضرون مثال الإخوانِ المسلمين عند الحديث عن “الإسلام السياسي”، وهو مصطلحٌ غربيٌّ أيضاً، والهدف من هذه المصطلحات حصر الحالة والتنفير منها، إن كان في المجتمعات الغربية أو العربية والإسلامية، لكي تستمر في التحول والتنازل وتقديم الولاء، أو تنهار أمام الضغوط الداخلية والخارجية.
هذه الحالة المثيرة للاهتمام، إنما هي امتدادٌ للسعي الدولي في تحويل من يخرج على النظام الدولي الحالي في أي جزءٍ من أجزائه إلى موظف في هذا النظام، وإن تطلب ذلك الإبقاء على بعض الشعارات والأزياء كمرحلة انتقالية، وهذه المرحلة هي التي توصف بهذه الصفة، حيث لو كان التحول بشكل مباشر من الجهادية القتالية إلى العلمانية الصارخة لما كان هناك حاجة إلى الوصف أساساً، لكن التحول الجذري السريع وبغير مرحليةٍ وتمهيدٍ قد يؤدي إلى مفاجآت وانقلابات لا تناسب المسار.
وبالعودة إلى المثال الذي يحضر في معظم الكتابات عن تحول “الجهادية السياسية”، رفض الكيان الصهيوني أن يكون لقوات الحكومة السورية الجديدة وجودٌ جنوب دمشق، وصرح أكثر من وزير صهيوني أنهم ما زالوا يعتبرون هيئة تحرير الشام منظمةً إرهابيةً قدمت من إدلب واستولت على السلطة في دمشق، رغم أن التحول كان كبيراً من جماعة تكفِّر كل الأنظمة وترفض العلمانية والديمقراطية وأي تعامل مع النظام الدولي، إلى حكومةٍ مستعدةٍ للتفاوض على كل شيءٍ وتقديم كل التنازلات عدا السلطة.
وإن سبب رفض الصهاينة القبول بهذا الأمر الواقع هو رغبتهم في تثبيت حالةٍ مستقرةٍ غير مهدِّدة لهم وغير مهدَّدة بالتغيير، وهذا لا يكون إلا عن طريق التحول النهائي نحو نظام حكم مسيطر مع قاعدة شعبية واسعة تقر تعاملاته مع الأصدقاء والأعداء ضمن المنظومة الدولية، عن طريق إقرار العلمانية والديمقراطية وتطبيقها العملي، وغير هذا فإن أي توافق أو اتفاق يبقى مهدداً بانقلاب مفاجئ أو ثورة جديدة، وهذا يعلمه الصهاينة جيداً، لذلك صرحوا أنهم سيعملون على إبرام تحالف أقليات في المنطقة كدرع يقيهم المواجهة المباشرة مع مسلمي سوريا، وبالفعل ظهرت خطوات واضحة وصريحة في هذا الاتجاه.
كتب د. جيروم دريفون المحاضر في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف، كتب كتاباً عن موضوع الجهادية السياسية نشرته مطبعة جامعة أكسفورد، بعنوان: “من الجهاد إلى السياسة: كيف انخرط الجهاديون السوريون في السياسة”، ناقش في الكتاب أسباب وآلية هذا التحول، وذكر مصطلح “تسييس الجهاد” ليصف الحالة، وهكذا يحضر هذا المثال في معظم الدراسات والأبحاث والنقاشات، نظراً لاختلافه عن تحولات سابقة للجهاديين إن كان في أفغانستان، حيث حافظت طالبان على منهجها الصلب ووظفت العلاقات الدولية الناشئة لخدمته، وفي الشيشان تحول جزءٌ من المجاهدين مع العميل الروسي قديروف إلى نظام تابع كأداة في يد بوتين، وفي الصومال كان الانقلاب المفاجئ من قائد المحاكم الإسلامية شريف شيخ أحمد الذي تولى رئاسة الصومال بعد ذلك، لكنه لم ينجح في تحويل جهادية الصومال والقضاء عليها.
في تطلعات الدول ورغباتها لا بد أن تنتهي حالة الجهادية السياسية إلى وظيفية تابعة أو منسجمة، لذلك تحاول منع حدوث صحوةٍ تعود إلى أصل الجهاد السياسي المرافق لأنواع الجهاد الأخرى التي يتكامل معها، ولا ينقلب عليها ويحاربها كما تفعل “الجهادية السياسية” أو حالة “تسييس الجهاد” التي ينظر لها ويريدها الغرب.
لا يوجد كتاباتٌ متخصصةٌ عن الجهاد السياسي، بهذا العنوان الفرعي المتميز، لكنه ذكر في التراث العلمي في معرض الحديث عن الجهاد بشكلٍ عام، إلا كتابٌ واحدٌ للطبيب الحلبي عبدالرحمن كيالي، كتبه عام 1926، ورغم أن المصطلح إسلامي إلا أن الكاتب لم ينطلق فيما كتب من منطلقٍ إسلامي، فقد غلَّب الوطنية السورية والعلمانية التي كانت وليدةً سائدةً في ذلك الوقت، وسرَدَ أحداث هذا الجهاد سرداً تاريخياً، فلم يتطرق لدراسة المصطلح ودلالته الشرعية، وممارسته التعبدية، ومآلاته في الدنيا والآخرة، ما أفرغ الكتاب من مضمونه الأساس الذي يظن القارئ أنه سيجده.
وتبقى المكتبة الإسلامية والعربية مفتقرة إلى الكتابات والأبحاث المتخصصة في هذا المجال “الجهاد السياسي” وهذه الحالة “الجهادية السياسية”، إلا ما يتجشم بعض المهتمين عناءه ليسلطوا الضوء على مضامين ينشغل عنها عامة الناس بالأحداث ترقق بعضها بغير تدبرٍ ولا إفادةٍ عميقة.
نسأل الله أن يصلح شأننا وأن ينصرنا على أعدائه وأعدائنا.