على حَبائِلِ الشَّيطان – كتابات_فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٨ – شوال ١٤٤٤هـ⁩⁩⁩⁩

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

قفزٌ أو رقصٌ أو لعبٌ أيا كان اسمه وأيا كانت صفته الأهداف هي هي، لا تعدو أن تكون الاستمرار في التميزِ والظهور والعلو، وجنيِ المكاسبِ المادية، عن طريق التوسُّلِ بأي وسيلةٍ مهما كانت رذيلةً، فالغايةُ عند البراغماتي والميكافيلي تبررُ الوسيلة.

بهلوانُ اللهو لا تناسبه الأرض الثابتة ولا تناسب تحركاتِه، فالأرضُ الثابتةُ تعيقُ القفزاتِ والرقصاتِ والتقلبات التي يقوم بها، تماماً كالمبادئِ والضوابط التي يبغضها ويتهرب منها بهلوانُ الطغيان والنفاق، سواء كان طاغياً صغيراً أو كبيراً، وسواء كان منافقاً جباناً أو مارداً، وبينما يعبر الناس عن التَّحايُلِ بعبارة “اللعب على الحبلين”، يظهر جلياً وبممارسات واقعيةٍ أنها حبالٌ كثيرةٌ متشابكةٌ لا يهتم اللاعب لمواصفاتها ولا لطهارتها أو نجاستها، المهم أن يتعلق منتقلاً بينها كالقرد.

إن سبيلَ الله واحدٌ مستقيمٌ وسبلَ الشيطانِ كثيرةٌ ملتويةٌ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال : هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال : هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]»، ومعلوم أن السبيلَ الواحدَ يجمعُ والسبلَ الكثيرةَ تفرقُ، كلُّ فرقةٍ تمضي في سبيل.

وإن توحيدَ الكلمةِ على الخير لا يكون إلا بالاعتصام بحبلٍ واحدٍ هو حبل الله عز وجل، أما الحبائلُ فهي إن جمعت فلا تجمعُ المتفرقين فيها إلا على الشرِّ، فهو وسيلةُ وغايةُ الشياطين، ولطالما ظنَّ الناس أن مفهوم الجماعةِ موجودٌ في كلمة واعتصموا كاختصار، مع التأكيد بكلمة جميعاً، لكنهم يجهلون أو يتجاهلون تخصيصَ وتحديدَ “بحبل الله”، فيستسهلون الحبائلَ التي تسمحُ بالبهلوانِيَّةِ و”الفهلوة”، إنها تستهويهم ليختصروا الطريق إلى شهواتهم وشبهاتهم، فإذا اجتمع شملهم على فسادهم المشترك سوَّقوهُ للجاهل على أنه الخيرُ والصلاح.

وها هي التقلباتُ المصلحيَّةُ التي لا ضابط لها، تعصف بالعالم بفعل الأنظمة والتنظيمات الجاهلية، لعبٌ ولهوٌ وتفاخرٌ وتكاثرٌ، وسعيٌ بالكذبِ وإخلافِ الوعودِ وخيانةِ الأمانة، هو دأبُ الدول التي قامت على ذلك، ولا يعلم حكامها أنهم يستمرون إلا على ذلك، فلا يقصرون فيما يخدم سطوتهم ويكبِتُ الشعوبَ ويقهرها، ولو كان فيه تناقض فجٌّ، كما فعلت الدول العربية بشأن التعاملِ مع النظامِ المجرم في سوريا في الخفاءِ ثم التطبيعِ معه في العلن، بعد كل التضحياتِ التي بذلها الشعب السوريُّ المسلمُ أمام أمَّتِه يدفع عنها أعداءها المتربصين بها، فكان الجزاء الارتماء في حضن الأعداءِ والتَّنكُّب لهذا الشعبِ المجاهدِ وخذلانه، خوفاً من امتداد الصَّحوةِ التي لن تبقي منهم خائناً ولن تذر.

ألاعيبٌ وقفزاتٌ صبيانيةٌ تدل على الرُّعونةِ وغيابِ الحكمةِ والعقلِ، ولئن كانت الأنظمةُ هذه تظنُّ المصلحةَ والاستمرار فيها، فالحقيقةُ عكس ذلك تماماً، يراها من أنار الله بصره وبصيرته، ولا عجب إن تنقَّلت هذه الأنظمة بين التطبيع مع العدو اليهودي “الإسرائيلي” والتطبيع مع العدو الباطني الإيراني والنصيري، وبين التبعية الأمريكية والروسية والصينية، ولا عجب إن تنقَّلت بعض الفصائلِ والتنظيماتِ في الثورة السورية (كمثالٍ) من الرعاية العربية إلى التركية إلى الأمريكية، وبعضها من محاربة المجاهدين بتهمةِ الرِّدةِ إلى محاربتهم بتهمة الإرهابِ، طالما أن هذه الأنظمةِ والتنظيمات اتخذت رؤوساً جهالاً يجتهدون لمصلحتهم بحريةٍ مطلقةٍ من كل قيدٍ، ويتقلبون بفجورٍ وصَلَفٍ بلا خَشيةٍ ولا حياءٍ، وكأنهم تعلموا أصول الطغيان من معلمٍ واحد.

قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) [محمد: 25 – 26]، وكما أن طاعة الله تثبت الإنسان بحبلٍ واحدٍ وفي سبيلٍ واحدٍ، لوحدانيته سبحانه وعلوهِ على كل شيءٍ، لا يثبت الذي يطيع شياطين الإنس والجن على حبلٍ ولا في سبيلٍ، بل يتقلب قافزاً لاهياً بينها، ويزداد ضلالاً وغِيّاً، حتى يكون هو من يُسوِّلُ للشيطانِ ويسبقهُ في المكرِ السيئ.

أما الاستدراجُ والإملاءُ فهو فتنةُ من رتعَ هذا المرتع، يظن أن لعبه على الحبائلِ ينفعهُ ويحقِّقُ مرادَهُ ويصوِّب اجتهادَهُ، ويغفلُ عن حقيقةِ أن المتقلبَ المتلاعبَ ممقوتٌ في السماءِ والأرض، يبغضه الناسُ بعيدُهم وقريبُهم، ولو مالأهُ أهل الزيغِ والضلالِ قبل سقوطهِ، فمهما امتدت هذه الحبائل واستمر في القفزِ والمناورة عليها، سيأتي يومُ السقوطِ، ذلك اليومُ الذي تنالُ من الطاغيةِ البهلوانِ أيدي وأرجلُ المجاهدين والمشاهدين جميعاً، ويخذلُه مشغِّلوهُ وتابعوه، ويتبرأون منه، كما حدثَ في كل زمانٍ ومكانٍ وُجِدَ فيه أمثاله.

ولا تنفع الساقطَ مقدماتُ وعلاماتُ سقوطه، وكلما اقترب انقطاع الحبائلِ به ازدادَ اضطراباً وتخبطاً يستعجلُ أجله، قال الله تعالى: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126]، فهم صمٌ عميٌ بكمٌ لا ألبابَ لهم، (… وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى