وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ – #كتابات_فكرية – مجلة بلاغ العدد ٥٢ – صفر ١٤٤٥هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى عباده المؤمنين، وبعد:
مجهولُ النَّسَبِ لكنهُ مشهورٌ مُخلَّدٌ ذِكرُهُ في القرآنِ الكريم، ولم يرد في نَسْبِهِ إلى قومٍ قولٌ صحيحٌ، وقد اختلف في ذلك المفسرون، لكنه يُنسَبُ إلى بلدة السَّامِرَةِ شمالَ القدسِ، ظهرَ على حين غفلةٍ من بني إسرائيل، فكان سبباً في ضلالٍ تلاهُ عقابٌ أليمٌ عظيمٌ فريدٌ اختُصَّ به بنو إسرائيل، وكان للسَّامِرِيِّ عقابٌ مُهينٌ فريدٌ اختُصَّ به من بين البشر.
بعد أن خرج بنو إسرائيلَ من مصرَ ونجاهم الله عزَّ وجلَّ وأغرقَ عدوهم رأوا قوماً يعبدون الأوثان، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يرونها ويعبدونها كهؤلاء القوم، فوبَّخَهُم عليه السلام وبيَّنَ لهم خطيئةَ طلبِهِم، لكنهم لم ينتهوا عن هذا وسقطوا فيه عندما سبقهم موسى عليهم السلام إلى ميقاتِ الله في جبلِ الطُّور، حيث أخذ السَّامِريُّ قبضةَ ترابٍ من أثر فرسِ جبريل عليه السلام، لتكونَ سبباً من قَدَرِ اللهِ في فتنةِ القومِ واختبارِهم، ويكونَ السَّامِريُّ داعيةَ ضلالهم.
جمعَ بنو إسرائيلَ الحُلِيَّ والمَصاغَ الذَّهبيَ الذي اختلسوهُ من قوم فرعون عند خروجهم من مصر في حفرةٍ، يتنزَّهُونَ منه ورعاً!، فألقى السَّامِريُّ قبضةَ الترابِ فتحول الذهبُ إلى تمثالٍ على صورة عجلٍ له خوارٌ، فعَكَفَ جُلُّ بني إسرائيل عليه يعبدونه، وعصوا هارونَ عليه السلام ومن ثبتَ على إيمانه معه، وكادوا يقتلونه عندما ألحَّ عليهم بالنَّهي عن كفرهم هذا.
وبينما كان موسى عليه السلام يأخذ الألواحَ التي فيها من كلِّ شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكلِّ شيءٍ، أعلمه الله بما فعل قومه، {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه : 85]، فرجع موسى عليه السلام غضبانَ أسِفاً يلوم قومه على ما فعلوه، ويعاتِبُ أخاه هارون عليه السلام كيف سمح لهم بذلك، فلما تبيَّن له وأقرَّ السَّامِريُّ بفعلتهِ دعا لنفسهِ وأخيه، وحرَّقَ العِجلَ ونسَفَهُ في البحرِ، وأبلغَ السَّامِريَّ بعقوبتِه، وأبلغَ قومه بعقوبتهم.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه : 97]، جزاؤه من جنس عمله، حيث مسَّ ما لم يمسَّه غيرُه، هذا ما جاء في تفسير السعدي، وجاء في تفسير القرطبي أن عقوبته هذه عقوبةُ أهل البدعِ والمعاصي يُهجَرون ولا يُخالَطون، كما أن هذه العقوبةُ عكسُ مُرادِ السَّامِريِّ وهو الوجاهةُ والرِّيادةُ بين الناس وتحصيلُ المكانةِ والطاعةِ منهم، فكان النَّبذُ والإبعادُ مآلَهُ.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 54]، أتى أمرُ الله بأن يقتلَ بنو إسرائيل الذين عبدوا العجلَ بعضهم بعضاً لكي يقبل توبتهم، فحملوا أسلحتهم وانتظروا أمر البدءِ، فظلَّلتهم ضَبَابةٌ كي لا ينظروا في وجوهِ بعضهم وبدأوا بالقتل، حتى أمر الله بأن يتوقفوا وانزاحت الظُّلَّةُ عن سبعين ألف قتيلٍ، فكانت شهادةً للمقتول وتوبةً لمن بقي حياً. (تفسير ابن كثير).
إنه عقابٌ أليمٌ لجرمٍ عظيمٍ، من قومٍ أصلُهم وسَلَفُهُم الأنبياء وكَثُرَ فيهم الأنبياء، لكنهم تربَّوا في عبوديةِ الفراعنةِ الوثنيين زمناً، حيث كان الفراعنةُ لهم الكثير من أشكال الآلهة، كما أنهم قومٌ ماديون لا يخضعون للشرعِ بل للشخص، ولو أنهم آمنوا واتقوا لأطاعوا هارونَ، في الحق كما يطيعون موسى عليهما السلام، {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ (91)} [طه : 90-91]، فالرسول وسيلةٌ لإيصال الحقِّ وتبليغه، وهذه وظيفةُ الأنبياء وغيرِ الأنبياءِ من المؤمنين، وإنما يَنبُذُ الحقَّ هؤلاءِ وأمثالُهم بسبب الاستخفافِ بالصالحين المصلحين واستضعافِهم، فتكون عاقبةُ هذا الغِيِّ والضَّلالِ هلاكاً.
كما أنهم سريعو التَّنَكُّرِ للحقِّ وإن كان مؤيَّداً بآياتٍ بيِّنَةٍ ومعجزاتٍ خارقةٍ، عاشوها مع موسى عليه السلام عياناً ولمسُوها بأيديهم فتناسَوها، وجاءهم الاستدراج بوثنٍ لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً فوقعوا له عابدين، وغابت مرجعيتهم لوقتٍ قصيرٍ فاستسلموا لمجهولٍ مغمورٍ أضلَّهم بوهمٍ وغرورٍ، وليسوا في ذلك بِدَعاً، إنما سبقهم ولحقهم من أمثالهم الكثير، لكنهم مثالٌ بارزٌ عن الكفرِ بعد الإيمان، وعن العصيانِ وقتَ الأمرِ بالطاعة، وعن الحُجودِ والنُّكرانِ وقتَ تجلِّي الحقيقة.
هذه القصةُ يمكن استخلاصُ عِبَرٍ كثيرةٍ منها ومن غيرها مما ماثَلَها أو شاكَلَها، وأهمُّ هذه العِبَرِ أن المرجعيَّةَ الشَّرعيَّةَ القويَّةَ لأيِّ قومٍ أو شعبٍ أو أمةٍ يجبُ ألا تغيبَ عنهم ولو لمدةٍ قصيرةٍ، ولا يجوز أن تكون بعيدةً عن واقِعِهم، فهي أمانٌ لهم من الضلالِ والاختلافِ، وهي رادعٌ مانعٌ للمضلينَ سواءٌ كانوا معلومينَ أو مجهولين، وإن المجهولَ أخطرُ من المعلومِ إن أطاعهُ الناس، فمكانَتُهُ حصيلةُ مكرِهِ وحيلتِهِ، واستمرارُهُ لا يستمُّدهُ من أصلِهِ بل من استمرارِ باطلِه.
ومن أهمِّ العبرِ أن حياةَ العبوديَّةِ تبقى مؤثرةً في نفوسِ من يركَنُ إليها ويتقبَّلها، فهي أسهلُ وأرغَبُ من حياةِ الحريةِ عندهم، وينجو من هذا الداءِ الأحرارُ الذين يرفضونَ العبوديةَ لغيرِ اللهِ بكلِّ أشكالِها، لذلك لا يَصِحُّ تقديمُ أصحابِ النفوسِ الدَّنِيَّةِ، ولا تصحُ تولِيَةُ أصحابِ المناهجِ الفاسدةِ، فإنهم وإن أظهروا الصلاحَ حال سيطرةِ الصالحين، سيخرجُ مكنونُهم من الفسادِ إن سيطروا، يفسدون به العبادَ والبلادَ، ويسعون في الخلاصِ من بقيَّةِ الصالحين المصلحين كما حدثَ مع هارون عليه السلام.
ومن أهمِّ العِبَرِ أن الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ، لا يتغيرُ لزمانٍ ولا مكانٍ ولا أشخاصٍ، فمن كانت نظرتُه إلى الحقِّ ماديةً محسوسةً أثَّرَ فيه الوهمُ وتقلُّبُ الظروفِ، ومن كانت نظرته إلى الحقِّ إيمانيةً معقولةً ثبتَ عليه وإن تغيرت الدنيا كلُّها، ولقد جاء في الأثر عن عليٍّ رضي الله عنه؛ قال: “لا يعرفُ الحقُّ بالرِّجالِ، اعرِفِ الحقَّ تعرِفْ أهلَه”، وبهذا تُعرَفُ المرجِعيَّةُ ويُحكَمُ عليها تَصلُحُ للاتباع أو لا تصلح، اقتربت أو ابتعدت، حضرت أو غابت، قلّت أو كثرت، ثبتت على الحق أو ضلّت أو خانت، وبالتمسُّكِ بالحقِّ الأصيلِ الخالدِ يُدفعُ الباطلُ الدَّخيلُ الوافدُ، ويُطاعُ المصلحُ التَّقيُّ، نبيّاً كان أو غيرَ نبيٍّ، ويُعصى المفسدُ الشَّقيُّ، سامريّاً كان أو غيرَ سَّامِرِيٍّ.
ومن العِبَرِ الهامَّةِ أن من ينشغلُ بالسَّفاسفِ ويتورَّعُ في الظَّاهرِ عن الصَّغائرِ، غالباً ما يقع في الكبائرِ، كمن تورَّعوا في ذهبِ الفراعنةِ، فصنعوا منه عجلاً عبدوه من دون الله، ومن سألوا عن دمِ البعوضة وهم قتلوا الحسين رضي الله عنه، ومن تورَّعوا في قتلِ خنزيرٍ وقتلوا الصَّحابَةَ والتابعين، ومن رفعوا شعاراتِ التزكيةِ لأشخاصهم وجماعاتهم، وشَنَارَ التُّهمةِ والتَّعيير لغيرهم من المسلمين، فوقعوا في كلِّ باطلٍ افترَوه وكلِّ بهتانٍ رَمَوه، والأمثالُ كثير.
ومن العِبَرِ الهامَّةِ ضرورةُ توحيدِ صفِّ الصالحين المصلحين في مواجهةِ الفاسدين المفسدين، ولو اختلفت اجتهاداتُهُم، فالتَّمَسُّكُ بالحقِّ ثابتٌ والتعبيرُ عنه يكون وفقَ ظروفِ الداعي إليه، لا يستسلمُ للظروفِ فيتركُ الحقَّ، لكن ربما يغيِّرُ طريقتَهُ في عرضِهِ والجهادِ في سبيله، كما حدثَ مع هارونَ عليه السلامُ ومن معه، عندما جابهوا القومَ ونهَوهُم عن عبادةِ العجلِ، فلمَّا هدَّدَهُم القومُ بالاستئصالِ اعتزلوهُم وتريَّثُوا حتى يرجِعَ موسى عليه السلامُ ويقوى صفُّهُم به، {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} [الأعراف : 150-151].
قصةٌ عظيمةٌ لها مقدِّماتٌ وأسبابٌ كثيرةٌ، وعواقبُ وعِبَرٌ خطيرةٌ، لا يمكن الإحاطةُ بها في مقالٍ، اختصرتُ أهمَّها من باب التَّذكيرِ والتَّحذيرِ، فكلُّ قومٍ تجتمعُ فيهم هذه الأسبابُ أو بعضُها، ويتعاملون مع مرجعيَّتهم بهذه الطريقةِ أو ما يُشابِهُها، ويظهرُ فيهم أهلُ الضَّلالِ والإضلالِ كالسَّامِرِيُّ ومن شابَهَهُ، فهم في فتنةٍ عظيمةٍ أو على بابها، يقدِّرُها الله عزَّ وجلَّ تمحيصاً، فيتولَّى كبرَها بعضُهم، ويتضرَّرُ من أثرِها سائِرُهُم، ويُثبِّتُ اللهُ من عبادِهِ الخُلَّصِ من ينهَضُ للمواجهةِ ونيلِ شَرَفِ الدَّعوةِ إليهِ والجهادِ في سبيلِهِ جلَّ وعلا، اللهم اجعلنا من عبادكَ المُخْلَصِينْ، اللهم آمين.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ بصيغة BDF اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا