علامات هرم الدول عند ابن خلدون.. الجماعات عندنا من الحضانة إلى الشيخوخة دون المرور بمرحلة النضج مجلة بلاغ العدد ٥٦ – جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـDecember 21, 2023

الأستاذ: حسين أبو عمر

 

ابن خلدون، تلك العبقرية التي كان لها عظيم الأثر في تأسيس ووضع قواعد علم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، وإسهامات كبيرة في علوم أخرى، ومازال أثرها باقيا إلى زماننا هذا.

ومازالت أحوال الكثير من الدول والجماعات على مر القرون تثبت صحة الكثير مما استنبطه من قواعد وسنن ناظمة لحركتها وتطورها.

في هذا المقال سنذكر بعضاً مما ذكره ابن خلدون في «مقدمته» من علامات وأعمال تقوم بها الدول أثناء دخولها في ما يسميها مرحلة الهرم، ثم تبدأ بالتفكك، فالسقوط..

الدافع لكتابة هذا المقال هو ما نشاهده من أحوال الجماعات عندنا، وكيف أنها ركبت كل عوامل السقوط التي ذكرها ابن خلدون وغيره من أساطين المؤرخين.. يكررون تجارب السابقين بتطابق مذهل!! ثم يوهمون أنفسهم أنهم غير، وأن تجربتهم مختلفة، وأنها فريدة زمانها، وأن مآلهم سيكون غير!! والحقيقة كما قال بعض المؤرخين: «أن الناس لا يستفيدون من التاريخ».

عقد ابن خلدون لمؤشرات دخول الدولة مرحلة الهرم عدة فصول، وشرح تحت كل فصل ما يزيل اللبس ويقوي الحجة..

ذكر في فصل «في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد»: أن صاحب السلطة يستأثر بها دون من أعانوه على تحصيلها، قال: “ينفرد به ما استطاع حتّى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكلّيّته”.

وعقد فصلا تحت عنوان: «في أن من طبيعة الملك الترف» قال فيه: “ينزعون مع ذلك إلى رقّة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطّيّب ولبس الأنيق وركوب الفاره”.

ومن نظر في حال الجماعات المتسلطة عندنا رأى من أحوالهم شيئًا عجيبًا من ذلك: تكلفة لباس بعض القيادات مئات الدولارات، سيارات فارهة، تزيين طرق ودوارات بعشرات آلاف الدولارات، فرش مضافات ومكاتب بآلاف الدولارات، وأشجار زينة بعشرات إن لم يكن مئات آلاف الدولارات!!

ثم فصلا تحت عنوان: «في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون»، قال فيه: “آثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك”.

إلى أن قال: “إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم”.

وهذا التحول من الخشونة إلى الترف، ومن مغالبة الأعداء والتوسع في أراضيهم إلى الدعة والسكون، وهذه الزيادة في النفقات تقتضي زيادة في دخل الدولة، فتتحول إلى دولة جباية ومكوس..

قال: “فيستحدث صاحب الدّولة أنواعًا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرًا معلومًا على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة”.

واليوم، لا توجد سلعة تدخل مناطقنا أو تخرج منها إلا وفرضت عليها الضرائب والمكوس، وهذا لا يشمل المعابر الخارجية فقط، بل حتى “المعابر” الداخلية!

ثم قال ابن خلدون: “اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة العوائد والنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس”.

التفنن في ألقاب الضرائب والمكوس، كما الحال عندنا: فتارة اسمها رخصة، وتارة اسمها مقابل خدمة…

إلى أن قال: “وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان”.

أما الوضع في زماننا فهو أسوأ بكثير مما ذكره ابن خلدون: فهذه السلع تجارتها حصرية لأنها سلع “سيادية”؛ هكذا يسمونها!، وتلك السلعة لها مورد حصري لأنه يدفع مبالغ طائلة مقابل الحصول على الوكالة الحصرية، وهكذا…

ثم عقد فصلا لأعظم سبب من أسباب زوال الدول وهو الظلم، «الظلم مؤذن بخراب العمران»، قال فيه: “ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران”..

هذا الخلل كان يدخل على الأمم الماضية بالتدرج، وهذا التحول من مرحلة النشوء فالنضج والقوة إلى الدخول في مرحلة السقوط كان يستغرق عقودًا من الزمان.

لكن العجيب في الجماعات عندنا أنها ركبت كل هذه العوامل خلال بضع سنين فقط، وأنها انتقلت من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الشيخوخة مباشرة دون المرور بمرحلة القوة والنضج!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى