وقفات مع المقال الأخير لمدير معهد واشنطن روبرت ساتلوف – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد الثامن والثلاثون ⁨ذو الحجة ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: حسين أبو عمر

في نهاية الشهر الماضي نشر روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لـ«معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، مقالًا تحت عنوان: ((مصافحة صغيرة للولايات المتحدة، قفزة عملاقة للعلاقات الأمريكية السعودية))، يثني فيها على ما قام به “ابن سلمان” من خطوات في عملية تغريب المجتمع، ويحض الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على زيارة الأخير..؛ فكان لنا وقفات مع هذا المقال:

* الوقفة الأولى:

مراكز الأبحاث هذه، وإن كانت الغاية المعلنة منها تقديم الدراسات والتحليلات لصانع القرار الغربي، إلا أنها في كثير من الأحيان تعمل كموجه لما يُراد من الطرف الآخر القيام به، وقد كان هذا واضحا في مقال ساتلوف، قال عن التغييرات التي قام بها ابن سلمان: «من الواضح أن هذين التغييرين الثوريين يصبّان في مصلحة أمريكا، وهما خطوتان عملاقتان في الاتجاه الصحيح -لكنهما ليستا أكثر من ذلك-، ومع ذلك، فإنهما في مراحلهما الأولى والطريق أمامهما طويل».

* الوقفة الثانية:

من يقرأ المقال يُخيل إليه أن السعودية، قبل عهد ابن سلمان، كانت تنشر الدين في أصقاع الأرض، وأنها كانت تسبح خارج الإرادة الأمريكية، وهذا أمر مجانب للحقيقة، في كتابه «النظام العالمي» يقول هنري كيسنجر: “بقيت المملكة العربية السعودية شريكة، بهدوء أحيانا، ولكن بحسم خلف الكواليس، في جل المشروعات الأمنية الإقليمية الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية”.

 

خوف آل سعود من “الأصوليين” قديم، ولم تغير المملكة رؤيتها في عهد ابن سلمان أو بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في كتابه «صراع الحضارات» نقل صموئيل هانتنجتون قول عبد الله ابن سعود: “في سنة ١٩٨٨ قال ولي العهد السعودي الأمير عبد الله: إن أعظم خطر يهدد بلاده هو قيام الأصولية الإسلامية بين شبابها”.

* وهذا يقودنا للوقفة الثالثة:

وهي أن ابن سلمان شنَّ أعنف حملة على الدين وعلى الدعاة أثناء حربه مع جماعة “الحوثي” في اليمن، فابن سلمان، كما أسلافه من قبل، يرى أن أعظم خطر يهددهم هو وعائلته هو “الأصولية الإسلامية”، وليست إيران وأذنابها، ولولا أن هذه رؤيتهم، وهذا هو ترتيب الأعداء لديهم، لاستغلوا الحرب مع الحوثي في الحد من التناقضات الداخلية عندهم.

في كتابه «دراسة في إدارة الصراع الدولي» يقول جمال سلامة: “البحث عن عدو تجمع عليه الجماعات المختلفة، وهي سياسة تقليدية”، ويقول: “أما النوع الثاني وهو الصراع الخارجي ضد الجماعات والكيانات التنظيمية الخارجية فيرى كوزر أن هذا النوع أيضا يؤدي إلى إحداث حالة من التماسك الداخلي فضلا عن أنه يحد من التناقض والصراع الداخلي”.

فوجود العدو الخارجي تستغله القيادات الحكيمة في إحداث حالة من التماسك الداخلي، والعمل على كسب الأصدقاء الجدد، والسعي إلى امتلاك أسباب القوة العسكرية والتفوق العلمي…؛ كما يقول جمال سلامة. وتستغله القيادات الضعيفة، التي لا تفكر إلا في نفسها، في تصفية الخصوم الداخليين، وفي إسكات أصوات النقاد والناصحين… وهنا ننقل كلاما نفيسا لمحمد قطب في كتابه «جاهلية القرن العشرين» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: “كيف كان عمر في حكومته للمسلمين؟

أليس هو عمر الذي قام على المنبر يقول: اسمعوا وأطيعوا، فينتبذ له رجل من المسلمين -سلمان الفارسي- الفارسي لا العربي! يقول له: لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تبين لنا لم فعلت كذا وكذا -يريد محاسبته على الأبراد اليمانية- فلا يغضب عمر ولا يثور! ولا يقول: كيف تناقشني وتعارضني وأنا في حرب مقدسة مع الأعداء الذين يتربصون بنا ويعملون على تحطيم الدولة والنظام! بل بيّن له الأمر في هدوء حتى اتضح.. فقال سلمان: الآن مر.. نسمع ونطع!”

* الوقفة الرابعة:

في كتابها «عقيدة الصدمة» تقول نعومي كلاين: “«الوقت الأفضل للاستثمار هو حين يكون الدم لا يزال على الأرض»، هذا ما قاله لي بصراحة أحد المندوبين في المؤتمر الثاني لـ «إعادة إعمار العراق»”، وتقول: “العنصر الآخر الذي يميز استراتيجية «الصدم والترهيب»، هو إدراكها أن الحرب عرض تلفزيوني يبث عبر الفضائيات لجمهور واسع”.

كما ذكرنا في الوقفة الثالثة أن ابن سلمان استغل فترة الحرب مع الحوثي لتغييب الدعاة في السجون، وفي محاربة الدين، فإنه كان قد استغل حالة ومشاهد القتل والدمار التي حصلت في بعض بلدان الربيع العربي، وفي سوريا على وجه الخصوص. استغل هذا المشاهد في ترهيب المجتمع مما قد يلحق به لو فكر في الثورة، ومن ثم في سجن العلماء والمفكرين والدعاة، وفي تغيير دين وثقافة المجتمع، وفي تغريبه، وفي فرض ضرائب باهظة عليه… في واحد من أوضح الأمثلة لتطبيق “عقيدة الصدمة”.

* الوقفة الأخيرة:

قال روبرت ساتلوف في مقاله: “هل يجدر بالرئيس بايدن زيارة المملكة العربية السعودية ومصافحة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، العقل المدبر المزعوم لاغتيال الصحفي جمال خاشقجي؟ الجواب نعم. وفي الواقع، هناك ضرورة أخلاقية قوية للقيام بذلك”.

وفي هذا رسالة إلى المرتمين في أحضان أمريكا، الضرورات “الأخلاقية” عند ساتلوف -وعند الغربيين بشكل عام- تحتم عليهم أن يأخذوا بالأحضان، وليس فقط مصافحة، من يقطعكم بالمناشير، أو بالبراميل، أو يذيبكم في الأسيد، إذا كان يعمل على تغريب وعلمنة مجتمعه، أو إذا كان يملك “غالونات” بنزين.


لتحميل نسخة من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد 18 اضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى