مفاداة جيف الكفار |الركن الدعوي | مجلة بلاغ – العدد الثامن عشر – ربيع الثاني 1442 هـ
الشيخ: أبو اليقظان محمد ناجي
بعد تغير التعامل الدولي في الحروب مع جثث قتلى المعارك، باتت مسألة الاحتفاظ بجثث الموتى في القتال وكيفية التعامل الشرعي معها من المسائل الهامة التي يلزم بحثها في ساحات الجهاد؛ حيث يعمد المجاهدون إلى الاحتفاظ بجيف الكفار في ثلاجات الموتى وعدم دفنها؛ لمبادلتها بجثث المجاهدين أو بأسرى مسلمين أو لتحقيق مصلحة للمسلمين أو أخذ فدية من المال، وأحيانا يضطرون لنبش قبور قتلى الكفار بعد دفنهم لتسليمها لذويهم مقابل الحصول على مصالح للمجاهدين.
حرمة جسد الآدمي حيًا وميتًا:
شرّف اللهُ الإنسانَ وحفظ كرامته حيًا وميتًا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء:70]، ويمتد هذا التكريم إلى ما بعد الموت؛ فنهت الشريعة عن حرق الجثث والتمثيل بها، وحرَّمت الشريعة نبش القبر ووطأه والجلوس عليه وقضاء الحاجة عنده؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حيًا) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، وأبو داود وابن ماجه في سننهما، وابن حبان في صحيحه، وقال ابن دقيق العيد: إسناده على شرط مسلم].
يقول الإمام الطيبي: “إشارة إلى أنه لا يهان ميتا، كما لا يهان حيّا”، ويقول الإمام الباجي: “يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته”.
ودَعت الشريعة لتكريم الموتى فقد روى الحاكم في المستدرك عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسل ميتا فكتم عليه غفر له أربعين مرة، ومن كفن ميتا كساه الله من سندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت فأجنه فيه أجري له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة) [قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره على ذلك الذهبي في التلخيص، وصححه الألباني].
ومن إكرام الميت دفنه حتى وإن كان كافرا حتى لا يتأذى منه الناس، وتركه بلا دفن مُثلة، وقد نهى الشرع عن المثلة، فيوارَى الكافر في حفرة، ولا يُغسل ولا يُكفن ولا يُصلى عليه ولا يُراعى فيه ما يُراعى في دفن المسلم كاستقبال القبلة ونحوه.
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخنادق لبني قريظة عند قتلهم، وألقى جثث قتلى قريش في القليب يوم بدر، وقال لعلي رضي الله عنه: “اذهب فوار أباك”. [رواه أبو داود وصححه الألباني]؛ قال ابن حزم في المحلى: “ودفن الكافر الحربي وغيره فرض”.
فالأصل في قتلى الحروب الكفار دفنهم في غير مقابر المسلمين؛ فتحفر لهم الحفر ويواروا فيها.
حكم مفاداة جثث الكفار:
الأصل أن تُدفن جثث الكفار المحاربين ولا يؤخذ عنها عوض، ولكن إن دعت الحاجة إلى مفاداة هذه الجيف بمصلحة للمسلمين أو مبادلة بأسرى مسلمين أو بجثث قتلى مسلمين وجب الاحتفاظ بهذه الجيف وعدم دفنها للمصلحة المحققة من ذلك، أما مفاداتها بمال فلا يصح أبدا إلا في حالة الحاجة الماسة للمال وعدم وجود إمكانية تبادل أسرى مسلمين أو جثث للمجاهدين؛ لأن جثة الكافر ليست من الغنائم وهي ميتة لا يجوز بيعها، وإن طلب الكفار أموالا لمفاداة جثث المجاهدين فلا حرج في دفع المال لهم لدفنها في مقابر المسلمين.
يقول الشيخ عبد الله عزام: “ومن آداب الجهاد دفن جيف أجساد القتلى من المشركين، وإذا أرادوا أخذها ودفع ثمنها فالأولى عدم أخذ الثمن”. [إعلان الجهاد].
وفي موقع الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ورد سؤال هذا نصه:
“هل يجوزُ بيعُ أو استبدالُ جثةِ الكافرِ الـمُحَارِبِ أو الـمُرتَدِّ بمالٍ أو بأسرى المسلمين، أو تسليمِها بدونِ مقابلٍ للكفار؟
الجواب: هذا حسب المصلحة، أقولُ: حسب المصلحة، نعم نبادلُهُم بها و”نَفْتَكُّ”، ممكن نبادِلُهم بأسيرٍ حَيٍّ، وإنْ كانَ بميّتٍ فمِن باب أولى”. [موقع الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك – https://sh-albarrak.com/article/5406].
تقول الدكتورة رقية أسعد صالح عرار في بحثها لرسالة الماجيستير؛ “أحكام التصرف بالجثة في الفقه الإسلامي”: “بعد عرض أقوال الفقهاء في المسألة، وما استدلوا به، يظهر أن الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو حرمة بيع جثة الكافر أو مفاداتها بمال” [أحكام التصرف بالجثة في الفقه الإسلامي].
وقد شدّد أهل العلم على هذا الأصل وهو حرمة أخذ العوض عن جيف المشركين حتى وإن كانوا حربيين إلا إن دعت الضرورة لذلك لفكاك أسرى مسلمين أو مبادلة جثث المجاهدين.
فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله بابا: “باب طرح جيف المشركين في البئر، ولا يؤخذ لهم ثمن”. وذكر فيه حديث ابن مسعود في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.
قال ابن حجر: “قوله: ولا يؤخذ لهم ثمن، أشار به إلى حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم، أخرجه الترمذي وغيره، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده، فقال ابن هشام: بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله، فهذا شاهد لحديث ابن عباس وإن كان إسناده غير قوي”. [فتح الباري].
والحديث المشار إليه هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم إياه). [رواه الترمذي بسند ضعيف].
وبوب عبد الرحمن المباركفوري بابا في “تحفة الأحوذي” تعليقا على هذا الحديث فقال: “باب: ما جاءَ لا تُفَادى جيفَة الأسِير”، قال رحمه الله: “الجيفة جثة الميت إذا أنتن قاله في النهاية، والمراد أنه لا تباع ولا تبادل جثة الأسير بشيء من المال… فيه دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك، وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها؛ لأنها ميتة لا يجوز تملكها ولا أخذ عوض عنها، وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام في حديث جابر”. [تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي].
قال ابن رجب: “ومما نهى عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا، خرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه….. قال وكيع: الجيفة لا تباع، وقال حارثة: قلت لإسحاق: ما تقول في بيع جيف المشركين من المشركين؟ قال: لا، وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفا فأبى علي فأحرقه”. [جامع العلوم والحكم].
يقول أبو محمد يوسف بن صالح العييري: “إن ما نحن بصدده من إعلاننا أننا نريد مبادلة جيف الأسرى، ببعض الأسرى من المسلمين، إن هذا الإعلان إنما هو إعلان مبادلة، وليس إعلان بيع، فلو حسن حديث الباب بشواهده فلا يدل على حرمة المبادلة فهذه مبادلة وليست بيع فيها ثمن ومثمن،….” [هداية الحيارى في جواز قتل الأسارى].
وأما مفاداة جثث المسلمين بالمال إن اشترطه الكفار فلا حرج في دفع المال لاستنقاذها ودفنها في مقابر المسلمين، تقول الدكتورة رقية أسعد صالح عرار: “أما عن مبادلة المال بجثث المسلمين، فإنه جائز، واﷲ أعلم؛ لأن استنقاذ المسلم أولى من تحصيل المال”. [أحكام التصرف بالجثة في الفقه الإسلامي].
وخلاصة المسألة:
أنه يجوز الاستفادة من جيف الكفار للمبادلة بجثث قتلى المجاهدين أو لتحقيق مصلحة للمسلمين كفك حصار أو إدخال سلاح أو طعام لمحاصرين أو عقد هدنة أو تحييد عدو إلى غير ذلك من المصالح، وقد يجب الاحتفاظ بجيف الكفار لاستنقاذ أسرى المسلمين.
ولا حرج في نبش قبور قتلى الكفار بعد دفنهم إن تم الاتفاق على مفاداتهم بأسرى مسلمين أو بجثث المجاهدين.
ولا حرج كذلك في الاحتفاظ بهذه الجثث في ثلاجات الموتى أو نقلها من مكان إلى مكان آخر.
أما مفاداتهم بمال فالأصل فيه الحرمة إلا إن تعذر التبادل فلم يوجد أسرى للمسلمين أو جثث للمجاهدين عند الكفار ولم توجد مصلحة محققة للمسلمين ودعت الحاجة الشديدة للمال وكان ذلك بفتوى من أهل المحِلة، والله تعالى أعلى وأعلم.