مصلحة المبدأ ومبدأ المصلحة في التعامل مع الثورة السورية (1)- كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٣١ – جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
عند الحديث عن المبادئ يتبادر إلى الذهن العامة الصالحة السامية منها، فالثبات على المبادئ -وهي معنوية أكثر منها مادية- هو ما يُعلي شأنها ويجعلها قبلة الأنظار، وفي الغالب لا يثبت أصحاب المبادئ الرذيلة، فلذلك تسقط مهما طال أمَدُ الدعوة إليها ويظهر معدنها الرخيص، ولا تسجل في عمق الفكر الإنساني لتحضر عند الحديث عن المبادئ.
إن من المبادئ ما يستحق أن يبذل في سبيل رفعه وتحقيقه كل غالٍ ونفيسٍ، فهذه المبادئ العامة والهامة إنما تهدف على الأقل إلى تحقيق الصالح العام وإن كان مجرداً عن الدافع والغاية الدينية، فهناك الكثير من المبادئ الفطرية التي فُطرت البشرية عليها، لا تتغير حقيقتها ولا يهتز ثباتها إلا في الأنفس المرتكسة الجاحدة، أما إن صدرت المبادئ من دينٍ يدعو إليها وإلى ترسيخها وتحقيقها تديناً وطلباً لرضى الله جلَّ وعلا، فعندها يكون الثبات أشد والعزيمة أقوى والطموح أكبر، والمصلحة المرجوة أعم وأسمى.
وعند الحديث عن المصلحة أول ما يتبادر إلى الذهن المصلحة الشخصية أو الفئوية، وفي الغالب المادية، خاصة إذا لم تكن كلمة المصلحة تابعة لما يفيد العموم بالإضافة، مصلحة الدين، مصلحة الأمة، مصلحة المجتمع، مصلحة الناس، وحتى هذه يمكن ادعاؤها زوراً للتغطية على المصلحة الشخصية أو الفئوية، ولا تكون صادقةً تعبر عن المضمون إلا ما ندر، هذا ليس حكماً قاسياً بل قراءةٌ واقعيةٌ.
واقع الثورة السورية التي قامت في قلب العالم كشف زيف وتقلبات الكثرة الكاثرة، ولم ينج من وَصْم الكشف والتمحيص إلا قلةٌ نادرةٌ، وإن هذا إن رددناه إلى أصله وجدنا السبب الأساس وهو الانقلاب على المبدأ وعدم تقديم مصلحته وخدمتها والثبات على مبدأ المصلحة، سواء كان المنقلبون دولاً أو منظماتٍ أو تنظيماتٍ أو أفراداً.
في بداية الثورة السورية تردد الأكثرون في الاعتراف بها ودعمها؛ لأنها لم تكن احتمالاً قوياً يمكن التخطيط المسبق له، ولم يكن مرغوباً بها أساساً، لكن مع إصرار أهلها على التضحية في سبيل مبادئهم، وانتشارها المهدد بانهيار النظام الوظيفي التابع للنظام الدولي، سارعت الدول المهيمنة والإقليمية إلى مد يد “الصداقة” والدعم مع رفع شعارات المبادئ الإنسانية أو الإسلامية البراقة، التي مضمونها الحقيقي مصلحة هذه الدول في الالتفاف على الثورة واستعمالها، وقد كان هذا فعلاً وتطور في مراحل وعلى مستويات، يقاومه أصحاب الوعي والثبات من أبناء الثورة وهم قلةٌ، ويتماهى معه من تماشى مع الثورة من الأفراد والجماعات تماشي هذه الدول وهم كثرةٌ، وهذه نقطةٌ غايةٌ في الأهمية.
يغنينا واقع الحال الذي يراه القاصي والداني والتحولات الواضحة في المواقف والتصريحات، والمساعي العملية الدؤوبة لإعادة إنتاج وتأهيل وتقبل النظام المجرم، يغنينا عن سرد المواقف كلها والتدليل عليها، لذلك نكتفي بأهمها وآخرها.
– في 24 فبراير عام 2012م في تونس انعقد أول مؤتمر لمجموعة الدول “أصدقاء الشعب السوري” بعيداً عن مجلس الأمن الذي عطلته روسيا والصين، كانت الشعارات المرفوعة تركز على تخليص الشعب السوري من الدكتاتورية وتحويل سوريا إلى الديمقراطية بعد تنحي النظام الحاكم، والحقيقة أنهم اجتمعوا بسبب مصلحة مشتركة وهي إعادة الاستقرار لمركز العالم، عن طريق ربط الطرف المتحرر بالنظام الدولي بالترغيب بدايةً ثم العرقلة والحرب والترهيب، وهذا ما حدث فعلاً، ثم بدأت تظهر عداوة هؤلاء “الأصدقاء” لمن يجهلها شيئاً فشيئاً.
– الولايات المتحدة برئاسة أوباما ومن يليه سمحت لإيران ثم لروسيا بالتدخل لحماية النظام المجرم ومنع سقوطه أو إسقاطه، ثم دخلت تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش الذي تمدد برضا وإرادة تخطيطية منها، وهي ذاتها التي أقرت حزماً من العقوبات الاستعراضية أبرزها قانون قيصر وسمحت لدول الجوار والمنطقة بخرقها.
– السعودية التي بدأت بلهجة قوية تهدف إلى تقويض النظام المجرم التابع للنظام الإيراني الرافضي المجرم لم تتوقف عن التواصل الاستخباري -على الأقل- معه، ثم ظهر هذا التواصل علناً في أكثر من موقفٍ، وحكامها هم من طلبوا صراحة من روسيا التدخل لحمايته، وهم الآن في طور إعادته إلى الواجهة السياسية العربية بمقابل موهوم أو بلا مقابل.
– الإمارات التي حضرت مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري، عادت الثورة السورية علناً ولاحقت أبناءها، ودعمت النظام المجرم في كل المجالات وعلى كل المستويات، وحكامها منشغلون بالعمل لتحصيل الاعتراف به وإعادته إلى مكانته العربية والدولية السابقة، تنفق في سبيل ذلك المليارات من الدولارات، والعدو المستهدف من هذا التحرك هو الإسلام والإسلاميون…، هذه بعض الدول وغيرها من الأمثلة حاضر.
– أما الأكثر من ذلك، فإن الدول التي دعمت الثورة السورية وسعت للإفادة منها كخيار استراتيجي، بعدما نُكِبت الثورة بنكباتٍ كانت هذه الدول وطريقة تعاطيها غير الاستراتيجية والتابعة الساذجة سبباً من أسبابها، وضعت يدها على سلة النطام وبدأت بإرخاء الأخرى.
– في الأيام الماضية أصدر مجلس الشعب الصُّوري التابع للنظام المجرم بياناً يؤكد أن لواء إسكندرون جزءٌ لا يتجزأ من سوريا، أثار هذا البيان غضب الأتراك، لكن تصرفات النظام الإجرامية الكثيرة وتبجحه في إظهار العداء لتركيا لم يمنع التواصل والتنسيق الاستخباري المستمر، هذا صرح به مسؤولون أتراك!، وما خبر تفاهمات أستانة وسوتشي بين روسيا وتركيا، واختزال الثورة بشريطٍ حدوديٍ لحماية الأمن القومي التركي عن العالم والجاهل ببعيدٍ.
– وفي الأيام الماضية القريبة شارك منتخب النظام المجرم لكرة القدم، الذي يضم شبيحةً مجرمين، في بطولة تقام في قطر التي رفعت علمه وعزفت نشيده الوطني وسمحت لمؤيديه بالاحتشاد وتشجيع فريقهم وكأن شيئاً من الشعارات المرفوعة والمبادئ المعلنة لم يكن!.
– الحقيقة المصلحية للمبادئ والشعارات المزيفة كشفها رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم عندما قال في عام 2017: “إحنا تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة وإحنا قاعدين نتهاوش عليها”، لقد وصف طريقة دعم الثورة التي أدارتها بلاده بالتشارك مع تركيا والسعودية التي غيرت موقفها من النظام المجرم، وكل ذلك بإشراف الولايات المتحدة بالتأكيد، إنها كلمة معبرة جداً “صيدة”، أي مصلحة الصيادين لا مصلحة الثورة السورية ولا سوريا عموماً.
إذاً، هذه الدول حتى أكثرها إعلاناً وتصديراً للشعارات وتأكيداً على المبادئ لم تحافظ عليها ولم تعمل لصالحها، بل تبدل موقفها وطموحها تبعاً لتغير مجريات الأحداث وتوزع القوى!، تلك الإنسانية المزعومة، والمبادئ الإسلامية والأخوية عندما تحضر المصلحة القومية الخاصة والوطنية الضيقة أو حتى الحزبية أو الشخصية وتتطلب التغيير يكون المبدأ المعمول به مبدأ المصلحة وتهمل كل المبادئ التي تستهلك كزينةٍ فقط، إننا في آخر الزمان حيث تنزع القيم وتقبض الأمانة من قلوب الرجال، والعياذ بالله.
المشكلة تكمن في طريقة التفكير السياسي المبنية ربما على قاعدة قالها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل: “في السياسة لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح دائمة”، مصالح ماذا؟، مصالح المبادئ أم مصالح مادية لا دينية ولا أخلاقية ولا مبدئية؟، هذا بالتحديد هو مبدأ المصلحة الذي ينتهك كل المبادئ الأخرى وإن كانت محقةً وساميةً، ويحرم الفرد والمجموع العامل به مكارمَ كانت موجودةً في التاريخ وتغنت بها الأجيال، إن لم يكن تديناً فتبعاً للفطرة والعرف المستقر والفخر المنشود.
* أما اليوم فما أسهل نفض اليد من الخير إن اشتد وظهر الشر، وما أسرع التنكر والتنكب للحق إن علا صوت الباطل، بل إن بعضهم يبقي يداً ممدودةً ورجلاً موضوعةً هنا وهناك كي لا يخسر أحد الفريقين إن ظهر على الآخر، في مفارقة كانت لتكون مضحكةً لولا أنها مبكيةٌ، هذا في الحديث عن الدول التي مردت على العلمانية التي تنبذ الدين وما يتبعه من مبادئ وأخلاق، والتي لا ترتبط أصلاً ولا مصيراً بالثورة السورية، فكيف بمن ادعاها ورفع رايتها وتغنى بها ثم انقلب على مبادئها تبعاً لهواه وثباتاً على مبدأ مصلحته، إنها لمفارقةٌ أكبر وإنه لحديثٌ ذو شجون.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣١ جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا
لقراءة المجلة تابع ⇓
مجلة بلاغ - عدد 31 - جمادى الأولى 1443