عمودا الفتوى، إذ يستقيلان من مجلس القضاء والفتوى.. وماذا بعد؟!

الزبير الغزي

قرأتُ أمسِ خبر استقالة الشيخِ البصير “د. إبراهيم شاشو” – سلمه الله – من “مجلس الإفتاء الأعلى في المناطق المحررة”، وكذلك من “مجلس القضاء الأعلى”، وقبل ذلك بعشرة أيَّام قدم استقالته من عمادة كلية الشريعة في جامعة إدلب.
ثم تبعها استقالة الشيخ المجاهد الفقيه اللُّغوي “أبي الحارث أسامة الشقيري المصري” – سلمه الله – من عضوية المجلسين كذلك، بعد أن كان قد ترك رئاسة محكة التمييز اختيارًا قبل عدة أشهر.

وخبرٌ كهذا لو كان في أيِّ دولة أو جماعةٍ تحرصُ على كوادِرَها وترعى رجالاتها؛ لكانَ يمثل صاعقةً كبيرة، ولاجتمع للنظر في أسبابه وحل مشكلاته: أهلُ الحلِّ والعقد والرأي والنظر..
وقد انتظرتُ ساعاتٍ وساعاتٍ لأقرأ توضيحًا أو نفيًا أو استنكارًا فلم أجد شيئًا من ذلك بكل أسف!
ففي حين يعلق بعض المشايخ والكُتَّابِ في القنوات على خبرٍ في الصين وروسيا؛ لا تسمع لهم رِكزًا في خبرٍ مهم بجوارهم، فضلا عما يسبقه ويلحقه من أخبار أخرى لا تقل عنه خطرًا، يصدق فيها جميعًا قاعدة الفقهاء بحرمة السكوت في معرض الحاجة!

والشيخُ إبراهيم شاشو يعرفه كل ثائرٍ مجاهدٍ من طلابِ العلم في الثورة السورية المباركة؛ فهو ابن حلب البار، ومصحح البوصلة فيها لتحمل قضية الإسلام بقوة، حتى صار عمود الثورة العلمي في حلب؛ فشغل محاكمها وقضاءها والدروسَ فيها، وحُوصرَ فيها مع أهله حين ابتلائها، فكان في حلب الثورة حقا: “جذيلها المحكك وعذيقها المرجب”، وهو مع ذلك صاحب أكبر شهادةٍ علمية شرعية في المناطق المحررة؛ فهو حامل شهادة الدكتوراة من جامعة دمشقَ، وقد آتاه الله مع العلم فهمًا عميقًا وقوة في الحجة يعرفهما كل من خالطَه.

والشيخ من القلائل الندرة من أهل العلم وحملة الشهادات الذين لم يخرجوا إلى تركيا للاستقرار فيها؛ بل آثروا العمل في هذا الجهاد، فتولى فيه عموم المناصب القضائية في الهيئات الشرعية ومحاكم الأحرار والجبهة واستقرَّ به المقام أخيرًا في وزارة العدل حيثُ تولاها بقوة؛ فكتب قوانينها الإدارية الناظمة لها والتي لا تزال فاعلةً إلى اليوم، وصار وزيرًا للأوقاف فخُتِمَ له بذلك ثلاث دورات وزارية عُرفت فيها كفاءته، مع تأسسيه كلية الشريعة في جامعة إدلب.

ولأجلٍ هذا كله ولعظيم أثره؛ فقد جرت محاولة اغتياله فجرًا بعد خروجه من المسجد؛ ففقد عينيه -حبيبتيه؛ نرجو أنهما سبقتاه إلى الجنة-، وما ذلك إلا ضريبةً لسيره في المشروع الإسلامي في المنطقة؛ فلم يتوانَ مع هذا ولم يبقَ في تركيا مع قدرته على البقاء فيها استطبابًا، بل رجع وصبر وأكمل ما بدأه..
وهذا التعريف غيضٌ من فيض، وإني لا أشهد إلا بما علمتُ؛ فقد ناقشني في أبحاثٍ علمية رأيته فيها حافظًا فقيهًا مطلعًا على أقوال الناس عارفًا بمآخذهم، جزاه الله خيرًا.. هذا حال الشيخ إبراهيم.

وأما شيخنا أبو الحارث فغرةٌ في جبين العلم، وشامةٌ في مفاخر اللغة والفقه، وما رئاسته لمحكمة التمييز – والتي تُسمّى بالنقض في بعض البلاد وبالمحكمة
العليا في بعضها الآخر – إلا شهادةٌ رفيعةٌ على علو كعبهِ ومرتبته في التقاضي والترافع والوقوف عند الحق؛ نحسبه ولا نزكيه على الله..
وإنَّ المقام أقل من أن يوفي شيخنا أبا الحارثِ حقَّه في الكتابةِ عنه، وذكر مآثره، ويكفيه سبعةً وعشرين عامًا قضاها مبتلى أسيرًا في سبيل الله، حتى وصل الشام مع قِيام ثورتها؛ مجاهدًا عالمًا معلمًا، جزاه الله خيرًا.

وبعد؛؛ فأن يتركَ الشيخانِ الجليلان مجلسي الإفتاء والقضاء؛ إنه لأمرٌ عظيم كبير، وإن مثل هذا الترك نذيرَ شرٍّ يستحقُّ معه وقفةً كبيرةً كبيرةً يُراجع معها طبيعة العمل الشرعي في المنطقة المحررة؛ فإنه رأس الأعمال وأهمها في هذا المشروع الإسلامي الكبير الذي ننشُد، وإلا فإنه كما قيل:
يا علماءنا يا ملح البلد… من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
فإذا ضاعت مؤسسة الفتوى والقضاء؛ فأي مؤسساتِة أهم منها أو أولى بالإصلاح منها؟!
فكيف والتارك للقضاء والفتوى هما أركانه الكبرى وأعمدته الأهم، والذي علمُ كل مطلعٍ بالمؤسستين في المنطقة أنَّ الشيخين أهم ركائزهما وأنشط أعضائهما وأكثرهما عِلمية وخبرةً على التحقيق.. فماذا ننتظرُ بعد للإصلاح والتدارك؟!..

إنَّ الفتوى والقضاء أعظم ركيزتين شرعيتين، وهما أهمَّ وأولى بالنظر والعناية من الإدارة والأمن والاقتصاد.. الخ؛ فكلُّ عمل دونهما، وخادمٌ لهما، ومُقَامٌ بعدهما، فإن تَرَكَ هذه الأعمال كبارُ العلماء، وتعاقبوا على الاستقالة منه؛ فيجب النظر في علة ذلك، وليراجع الخلل، ولنتقِ الله فيما بقي في هذه المنطقة المحررة لئلا نسلبَ النعمة بعد عطائها، أو نحرمَ الخير بعد منحه.
فأهل العلم يحرسون الإسلام من داخله ألا تضيعَ معالمُه، والمجاهدون يحرسونه من خارجه ألا يتسلَّط عليه عدوه، وبقوتهما معًا يكتمل نظمُ الإسلام وبناؤه، ومتى انهد أحد الركنين فهذه باب الهزيمة المحقق؛ إلا أن يتداركنا الله برحمته.

والله المستعان..

#الزبير_الغزي

قانة الزبير الغزي على التليجرام  اضغط هنا 
https://t.me/zbirf/24

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى