صور من جهاد العلماء
الشيخ: أحمد راتب
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) قال الحسن رحمه الله مفسرا كلمة (رِبِّيُّونَ) أي: فقهاء علماء.
هذا ديدن العلماء الربانيين منذ عهد الأنبياء، يتقدمون في الطاعات صفوف المؤمنين ليكونوا قدوة لهم، لا سيما الطاعات التي تكون شاقة على النفس البشرية كالجهاد، فقد جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم علماء الصحابة، وسار على نهجهم علماء السلف فَمَن بعدهم، وفيما يلي نفحة يسيرة موجزة من جهاد أولئك العلماء رحمهم الله أجمعين، تذكرة للمتقين وشحذا لهمم طلاب العلم العاملين:
أولا: الصحابي الجليل، طالب العلم، المؤذن، الأعمى بعينه البصير بقلبه، الذي نزلت فيه بداية سورة عبس، عبد الله ابن أم مكتوم، ورغم أن الله أنزل عذره في القرآن فقال: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) إلا أنه أراد الأخذ بالعزيمة لا بالرخصة، فسجّل له التاريخ ذلك، فكان يقول: (أقيموني بين الصفين، وحمّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار) وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة استنفر عمر رضي الله عنه المسلمين لغزو الفرس، فلبى المسلمون استنفاره من كل حدب وصوب، ومن بين هذه الجموع كان عبد الله ابن أم مكتوم، وانطلق المسلمون بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فندب عبد الله ابن أم مكتوم نفسه لحمل راية المسلمين ورفعها، والتقى الصفان واشتعلت حرب ضروس، وبعد ثلاثة أيام حل نصر الله المؤزر على المسلمين في معركة القادسية، وقد صدق ابن أم مكتوم، فقد ظل حاملا الراية مدافعا عنها حتى أصيب وسقط شهيدا لتختلط دماؤه بالراية التي أبى أن يتركها حتى وهو ميت، فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن المسلمين خيرا.
ثانيا: الصحابي الجليل، العالم الفقيه، القارئ، راوي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أعلم الأمة بالحلال والحرام، معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، كان رضي الله عنه رمزا للشجاعة وقدوة للعلماء الربانيين، فإلى جانب كونه عالما من علماء الصحابة، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الغزوات كلها، فشهد بدرا، وأحدا، والأحزاب، وحضر بيعة الرضوان يوم الحديبية، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم على الشهادة في سبيل الله، وحضر كذلك غزوة خيبر، وفتح مكة، وغير ذلك، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليدعو الناس للإسلام ويعلمهم دينهم، وبعد أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الصديق الخلافة أراد معاذ رضي الله عنه أن يسهم في نشر الدين في الشام، فجاء يستأذن أبا بكر رضي الله عنه للخروج مع المجاهدين في جيش أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لكن عمر رضي الله عنه اعترض لحاجة أهل المدينة لمعاذ وعلمه، فأصر معاذ رضي الله عنه على الخروج، فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه حرصه على الخروج أذن له لأنه رآه حريصا على الشهادة في سبيل الله، فخرج معاذ رضي الله عنه مع الجيش وأبلى بلاء حسنا، ولما فتح المسلمون الشام، قصد معاذ مدينة حمص واستقر فيها، وجلس ينشر الإسلام ويعلم الناس، حتى توفاه الله.
ثالثا: التابعي الفاضل، الإمام العالم، الفقيه العابد، حافظ القرآن الكريم، رضيع بيت النبوة، أبو سعيد، الحسن البصري رحمه الله تعالى، دعا له عمر بن الخطاب فقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس، كان أشجع الناس في زمانه، مجاهدا في سبيل الله، فقد سئل: هل غزوت؟ فقال: “نعم، غزوة كابل مع عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه” وكانت ضد الفرس، وكابل هي منطقة في أفغانستان، وقال جعفر بن سليمان: “كان الحسن من أشد الناس إذا حضر الناسُ..، وكان المهلب إذا قاتل المشركين فكان الحسن من الفرسان الذين يُقدَّمون”.
رابعا: الإمام الفقيه المحدث المفسر القاضي، عالم قريش، مؤسس علم أصول الفقه، أبو عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، كان شجاعا فارسا راميا ماهرا، قال الربيع بن سليمان: “كان الشافعي أفرس خلق الله وأشجعه، وكان يأخذ بأذنه وأذن الفرس، والفرس يعدو، فيثب على ظهره والفرس يعدو”، وقال أيضا: “خرجت مع الشافعي من «الفسطاط» إلى «الإسكندرية» مرابطا، وكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، ثم يسير إلى المحرس فيستقبل البحر بوجهه جالساً يقرأ القرآن في الليل والنهار، حتى أحصيت عليه ستين ختمة في شهر رمضان”.
وقد تعلم رحمه الله الرمي إلى جوار العلم، حتى إنه كان يرمي عشرة سهام فلا يخطئ في سهم منها، وقال في ذلك: “كانت همتي في شيئين؛ الرمي والعلم، فصرت في الرمي أصيب من عشرة عشرة”.
خامسا: العالم الفقيه المحدث، التقي العابد الورع، جامع أصح ما نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، كان مجاهدا في سبيل الله بنفسه وماله ضد أعداء الله، وكان راميا ماهرا قلّ أن يخطئ سهمه، وبنى من ماله الخاص قلاعا وتحصينات على حدود بلده بخارى، وشارك بنفسه في بنائها، واجتمع عدد كبير من الناس لمعاونته، وطلب بعضهم منه أن يستريح، فأبى إلا أن يحمل الحجارة معهم، وكان يطعم المرابطين من ماله، وكان رحمه الله رغم انشغاله بتحديث الناس مستعدا للقاء العدو والقتال، فكان مرة بفربر، وهي منطقة في تركمانستان، وقد استلقى على ظهره، فسأله أحد تلامذته فقال له: “إني أراك تقول: إني ما أثبت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسنا اليوم، وهذا ثغر من الثغور، خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أهبة، فإن غافصنا [أي فاجأنا] العدو كان بنا حراك”، قال الراوي: “وكان يركب إلى الرمي كثيرا، فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، فكان يصيب الهدف في كل ذلك، وكان لا يُسبق”.
سادسا: العالم المجتهد، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، كانت له مواقف عظيمة في جهاد التتار؛ فقد شارك بنفسه في معركة شقحب التي كانت في رمضان، وأفتى للمسلمين بجواز الفطر، وكذلك شارك في معركة كسروان، وكان في القتال شجاعا صنديدا، يقاتل بنفسه تارة، ويحرض بلسانه تارة، وكان يستنفر الناس للجهاد ودفع العدو الصائل، وله فتاوى معروفة بوجوب الجهاد على كل مسلم قادر إذا دهم العدو أرض المسلمين، وقد واجه غازان زعيم التتار بكلام حاد، وحذره من قتل المسلمين واحتلال أرضهم، وكان يزور المرابطين المجاهدين ويجالسهم ويبيت معهم، ويعظهم ويثبتهم، ويذكرهم بما وعدهم الله من فضل عظيم.
سابعا: الشيخ الفاضل العالم، محدث الديار الشامية محمد بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، كان عالما ورعا صواما قواما زاهدا في الدنيا، منقطعا للعبادة والتدريس، ولما قامت الثورة على الاحتلال الفرنسي في سورية، كان الشيخ يطوف المدن السورية، متنقلا من بلدة إلى أخرى، حاثا على الجهاد، وحاضا عليه، يقابل الثائرين، ويغذيهم برأيه وينصح لهم بالخطط الحكيمة، فكان أبا روحيا للثورة والثائرين المجاهدين.
* وقد شهد العصر الحديث جهاد كثير من العلماء في شتى أصقاع الأرض، فتقدم كثير من العلماء الصفوف كعز الدين القسام ومروان حديد وعبد الله عزام ونزار ريان وعطية الله الليبي وغيرهم الكثير، بل لا عجب أن تخرج جماعة كاملة من رحم المدارس الشرعية ويقودها أهل العلم كحركة طالبان الأفغانية..
وكم رأينا بفضل الله جل وعلا في الجهاد الشامي من مشايخ كان لهم جميل الأثر في جهاد النصيرية والروس؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، كالشيخ أبي عبد الملك الشرعي والشيخ أبي سارية والشيخ قاسم الحلو والدكتور محمد نور مكتبي والشيخ أبي فراس السوري والشيخ أبي معاذ المصري والشيخ المعتصم المدني وغيرهم كثيرون.
وختاما: فهذه غرفة صغيرة من بحر تاريخنا المليء بسير الأعلام الذين جمعوا بين العلم والجهاد في سبيل الله، فكانوا قدوة يحتذى بهم، ومنارة يُهتدى بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الأمة خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.