صفر مشاكل! – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٩ – ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

“صفر مشاكل مع دول الجوار” مبدأٌ طرحه أحمد داوود أوغلو عام 2013 عندما كان عضواً بارزاً في حزب العدالة والتنمية، ووزير الخارجية في حكومة أردوغان، ثم سارت السياسةُ الخارجية التركية على هذا المنوال بازديادٍ كلما شعرت القيادة التركية بالضغط الدولي، وللمفارقة خرج أحمد داوود أوغلو مستقيلاً من الحزب وترك السلطة بسبب مشاكل مع رئيسه رجب طيب أردوغان عام 2016.

هذا المبدأ لا يمكن أن يطبق دولياً ويستقر إلا من دولةٍ محايدةٍ محاطةٍ بدولٍ قويةٍ متكافئةٍ، تحقق تجانساً حضارياً مع محيطها، كسويسرا مثلاً، أو دولةٍ صغيرةٍ جداً كسلطنة بروناي، أو دولة في موقع هامشيٍّ استراتيجياً كتشيلي، أما دولةٍ بحجم وتنوع ومكانة تركيا فلا يمكن أن تحقق مبدأ صفر مشاكل؛ لأنه يؤدي إلى الكثير من التناقضات الخارجية، ويكشف ويضخِّم الكثير من المشاكل الداخلية.

لطالما كان افتعال المشاكل مع دول الجوار وسيلةً لتقزيم المشاكل الداخلية أو تجاهلِها، وجمع الشعب على الأساسيات الوجودية للدولة، وهذا يقوم مقام الآيديولوجيا في الدول التي لا يجتمع شعبها على آيديولوجيا محددة، وبالنظر إلى الحالة التركية خاصةً بعد رسوخ الديمقراطية في مطلع القرن الواحد والعشرين، يلاحظ غياب الآيديولوجيا أو المبدأ الجامع الذي يربط الكتل السياسية التركية وجمهورها، أو يربط أكثرها إن لم يكن كلها، وهذا الرابط الغائب يُصنع من قبل الساسة البراغماتيين بتسويقِ التحدي الخارجي للأمة أو الشعب، وهو ما يتعارض مع مبدأ صفر مشاكل تماماً.

لا يمكن تصفير المشاكل مع الخارج المتناقض إلا في حال تقديم تنازلاتٍ متناقضةٍ أيضاً، وهذا يضعف الدولة أمام أعدائها وبالتالي أمام أبنائها، وعند غياب التحدي الخارجي تنشغل فئاتٌ متعددةُ التوجهات نكشاً في أحشاء الدولة، وتسعى في خرابها واقتسامها سياسياً واقتصادياً وحتى جغرافياً، هذا النكش تدعمه الدول المعادية بإخلاص وانتهازية.

 

في الانتخابات التركية ظهر عَوارُ الديمقراطية بأجلى صوره، وبغض النظر عن الحكم القيمي الديني على الطرفين المتنافسين، لقد تَنَكَّبَ قرابة نصف الشعب التركي لإنجازات حزب العدالة والتنمية، فقط لأنهم ملوا منه ويريدون التغيير، وبسبب انجرارهم وراء دعايةٍ هدامةٍ ووعودٍ كاذبةٍ، ممن يعلمون أنه أسوأ وأكذب؛ وأقرب وأطوع لأعداء تركيا، لكنه يعدهم ببعض هواهم.

نعود إلى القيم لنقول إن الديمقراطية وهي غير منضبطة على كلِّ حالٍ، إن حلت في مجتمعٍ غير متجانسٍ فكرياً وقيمياً تفعل ما لا تفعله الانقلابات العسكرية والحروب المدمرة، هذا الخطر الذاتي يتضخم عندما يُصدِّق الناس وهم “صفر مشاكل مع الخارج”، فيقولون: “إذاً، كل المشاكل من الداخل!”، وتبدأ تفاعلات الصراع أو الهدم الذاتي.

وفي الوقت الذي تسير السياسة التركية على مبدأ “صفر مشاكل مع الخارج”، تنمو المشاكل الداخلية بين أقرب السياسيين فكراً ومنهجاً وأهدافاً، ليظهر الشرخ ويزداد بين أردوغان وحزب العدالة والتنمية من جهة، ورفاق دربه “أحمد داوود أوغلو” و”علي باباجان” و”عبد الله غل” و”تمل كرم الله أوغلو”، الذين يقودون أحزاباً صغيرة تحالفت مع الأحزاب المعادية لأردوغان وحزبه، معاديةً ليس فقط سياسياً بل دينياً أيضاً، في سعيٍ حثيثٍ للعودة إلى العلمانية الأتاتوركية، وهي غنيةٌ عن التعريف من جهة الدكتاتورية ومحاربة أساس الإسلام وشعائره. هذا التحالف جعل أردوغان وحزبه على شفا جُرُفٍ من خسارة الانتخابات، مع الدعم الكبير الذي قدمه الغرب لحملة معارضي أردوغان، ولقد صَرَّحت وصَرَخت وسائل الإعلام الغربية بضرورة الإطاحة بأردوغان وحزبه، بعضها تخوفاً من الإسلام السياسي، وبعضها تحذيراً من استعادة تركيا مكانتها الحضارية العثمانية.

ما جرى لا يلقي باللوم على طرفٍ واحدٍ، بل إن الطرفين الذين يُعرفان بوصف “المحافظِين” للدلالة على تمسكهما بالإسلام نوعاً ما ولحدٍ ما، يتوازعان المسؤولية واللوم، فالذي طرح سياسة صفر مشاكل مع الخارج انقلب على أقرب الناس إليه وتحالف مع أعدائه، والذي طبق هذه السياسة واحتوى المشاكل الكبيرة مع دولٍ عدوةٍ بكل معنى الكلمة، كان يسعه أن يحتوي رفاق دربه، لتلافي المشاكل الداخلية التي أنتجت تحالف معارضةٍ قوياً وخطيراً، وكان يسعه أن يحتويهم كما احتوى أحزاباً وفئاتٍ تركيةٍ غيرهم وأبعد منهم في الأساس.

إذاً، إن سياسة صفر مشاكل التي لا يمكن تطبيقها خارجياً ولا بنسبةٍ كبيرةٍ داخلياً بسبب اختلاف الناس، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118 – 119]، إنها سياسةٌ مضرةٌ تأتي على المبادئ والثوابت، ثم تأتي على صاحبها الذي فرَّط فيها، وتجعل البأس الذي من المفترض أن يوجه في اتجاه الأعداء الأولى فالأولى، تجعله بين الشركاء أو الأصدقاء، أمثلة هذا كثيرةٌ جُلُّها يعود إلى الشُّحِّ المطاع والهوى المتبع والعُجب بالرأي والاستغناء بالذات والقدرات، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6 – 7].

ثم إن «من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ؛ رضِيَ اللهُ عنه وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه وأسخَط عليه الناسَ»، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو حديث صحيح لغيره، أخرجه الترمذي (2414) وابن حبان (277) باختلاف يسير.

وروى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في حلية الأولياء (ج9 / ص122) عن الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: “يا ربيع رضى الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما يصلحك فالزمه فإنه لا سبيل إلى رضاهم” .. اهــ.

وإن كان المثال أعلاه دولةً علمانيةً فيها تجربة “إسلامٍ سياسيٍّ” كما اصطُلِحَ على تسميته، منخرطٍ في العملية الديمقراطية منذ عقودٍ مضت، تعثَّر أيام المعلم نجم الدين أربكان أكثر من مرة وانطلق أيام تلميذه أردوغان، إلا أن سياسة “صفر مشاكل مع الخارج” البراغماتية الواهمة ليست حكراً على الدول والأحزاب، بل هناك تنظيماتٍ وجماعاتٍ وأشخاصاً انتهجوا وينتهجون هذا النهج مع رفض تصفير المشاكل مع الداخل، وإذا فعلوا فتصفير المشاكل يكون مع فئات لا لون لها من الناس، لا تحمل هماً ولا همةً ولا مبدأً ولا غايةً، فيتكرر مشهد التناقضات والمشاكل بأحجامٍ وأنواعٍ مختلفةٍ، ويستمر الفساد ويزداد.

اللهم أصلح شأننا وانصرنا على أعدائك وأعدائنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى