زَيفٌ وَكِبرٌ | الواحة_الأدبية | مجلة بلاغ العدد ٥٨ – شعبان ١٤٤٥ هـ |
الأستاذ: غياث الحلبي
لا يزال شادي طالبًا في كلية الهندسة المدنية، إلا أنه كان يشعر في داخله أنه أكبر من الدكاترة الذين يدرسونه، وأنه أولى بمناصبهم منهم، لم يكن لهذا الشعور ما يدعمه من الواقع غير أنه استحوذ على نفس شادي، حتى خُيل إليه أنه مظلومٌ مضطهدٌ ولا بد من العمل على استعادة حقه السليب، ولكي يثبت ذلك فلا بد من أن يقوم بمشروعٍ ناجحٍ يكون مقنعًا للناس ولا بد من أن يكون المشروع متميزًا في دقته وإتقانه وحينها ستنبهر الأنظار وسيُقبل عليه الناس من كل حدبٍ وصوبٍ يعتذرون إليه لأنهم كانوا في غفلةٍ عنه وعن مهارته وخبرته ثم يُنزلونه المنصب اللائق به ويجثو كبار الدكاترة بين يديه ليستفيدوا من آرائه الصائبة وأفكاره النيرة.
لم يكمل شادي دراسته وإنما سافر إلى مدينة أخرى لا يعرفه فيها أحد ثم قدم نفسه أنه مهندسٌ كبيرٌ ذو خبرةٍ واسعةٍ وتجربةٍ فريدة، وتمكن من خداع بعض التجار فاقتنعوا بكلامه ثم اتفقوا معه على أن يبني لهم مبنىً تجاريًا ضخمًا يصبح حديث الناس لفخامته وجودته وروعة بنائه وإتقان صنعته.
وطلب شادي مبلغًا يفوق ما يُعطاه نظراؤه من المهندسين نظرًا إلى البناء الفريد الذي سيشيده، حاول التجار كثيرًا معه ليتنازل غير أنه تمكن بحسن حديثه من إقناعهم أنه لم يأخذ حقه كاملًا وإنما تساهل معهم كثيرًا، فالمبنى لا شك أنه سيجعل عجائب الدنيا ثمانية بعد أن كانت سبعة.
وشرع شادي بالعمل فرسم المخطط ثم جلب العمال والمواد وامتلأت نفسه غرورًا وهو يرى العمال يأتمرون بأمره وهو يملي عليهم ما يجب أن يفعلوه والأحرى أنه كان يتخيل نفسه دكتورًا وهؤلاء طلبةٌ صغار أمامه وهو يلقي محاضرة.
واستبد الزهو بشادي فأحب أن يدفع إلى كبره دفعة أولى فأرسل إلى بعض الدكاترة الذين كانوا يدرسونه بالمخطط ونوع التربة التي سيقام عليها المشروع وأخذ ينتظر الجواب متوقعًا أن يفغر الدكتور فاه وهو يتأمل دقة تخطيط شادي ثم ينهال عليه بالثناء.
وأخيرًا وصل الجواب من الدكتور محذرًا شادي من الاستمرار في مشروعه لأن التربة التي سيُبنى عليها لا تتحمله فهي غير مستقرة وأحسن الأحوال أن يحدث في المبنى تشوه أما الأسوأ فهو انهيار المبنى كاملًا، وأوصاه الدكتور أن يجري فحوصات لتحديد خصائص التربة لمعرفة قوتها ورطوبتها ونسبة الأملاح فيها وإلا فالعاقبة ستكون وخيمة.
تضايق شادي وهو يقرأ الجواب، ثم قال لنفسه: دكتورٌ جاهلٌ سأستمر في عملي وسيكون المبنى مدهشًا وسيضطر حينها إلى الاعتذار عن خطئه.
وشعر شادي أن كبرياءه قد جُرح فكتب إلى دكتورٍ آخرَ يحدثه عن مشروعه غير أنه هذه المرة أهمل ذكر التربة واكفى بقوله والتربة مناسبة جدًا لقيام المشروع، ثم جلس ينتظر الرسالة التي سترد إليه اعتباره وتثني على عبقريّته، وعندما وصلت الرسالة لم تكن أفضل من سابقتها فقد نصحه الدكتور بالتوقف عن العمل حالًا وتسليمه لمهندس ذي خبرة لكي يصلح الأخطاء التي وقع فيها فالمواد التي أحضرها لا تتناسب مطلقًا مع العوامل المناخية لهذه المدينة التي توصف بالحرارة العالية في حين أن المواد لا تقوى على مقاومة درجة الحرارة ولا تفيد في التصدي للتأثيرات السلبية لأشعة الشمس، كما أن تمدد المعادن سيؤدي إلى شروخ في الخرسانة الإسمنتية.
ازداد انزعاج شادي غير أن كبره حال بينه وبين اتخاذ أي خطوة لإصلاح أخطائه فأصر على متابعة الخطوات نفسها.
أخذ البناء بالارتفاع بعد الفراغ من مرحلة التأسيس وبدا واضحًا للعيان أن ثمة أخطاء كثيرةٌ في البناء تنذر بخطرٍ شديدٍ وقد لاحظ شادي ذلك، ومع ذلك رفض كبرياؤه الاعتراف بالأمر وأخذ يقنع نفسه أن الخلل يسيرٌ ويمكن ستره ببعض المحسنات التي تستخدم في البناء وبالفعل فقد جلب الكثير من هذه المواد ليموهه بعض التشققات الحاصلة وقد اضطره ذلك إلى الكذب على التجار ليُحَصِّلَ منهم مزيدًا من الأموال.
وذات يوم جاءه مسؤول نوبة العمال واعترض على السرف في استهلاك المواد المحسنة مع أن البناء بحاجة إلى إصلاح وتدعيم من الأساس وليس إلى تزيين خارجي وتلقى شادي هذا العامل باحتقارٍ شديدٍ وسفّه رأيه وهدد بطرده فلم يتحمل العامل هذه الإهانة.
وقال: المبنى مهددٌ بالانهيار وأنت تحضر المحسنات وماذا ستنفع مع هذه الشقوق هذا غشٌّ ولن أقبل به.
ـــ أنت مفصول خذ أجرتك ولا تريني وجهك مجددًا
ـــ لا يشرفني ذلك أصلًا
وصل العمال إلى الدور الثاني وظهر جليًا لأي إنسان ولو كان لا يدري شيئًا في الهندسة أن المهندس الذي أشرف على هذا البناء منتحل للصنعة لا يفقه فيها كثيرًا ولا قليلًا، ومع ذلك أصر شادي أن المبنى عندما يكتمل سيضاهي تاج محل بل ربما يفوقه.
وفوجئ شادي وهو يسمع أحد العمال يقول له:
ـــ أظن أن المبنى لن يكتمل أبدًا فهو سيسقط قبل ذلك
ـــ اخرس أيها الوقح أنت لا تفقه شيئًا
وإذ بالعمال جميعًا يرفضون متابعة العمل لأنهم يخشون أن يسقط عليهم المبنى أثناء عملهم، سقط في يد شادي وأخذ يفكر بسرعة كيف سيتخلص من هذ الورطة قبل أن يُرمى به في السجن فرأى أن أنسب الأمور أن يعلق الأخطاء في رقبة غيره ورأى أن كبش الفداء يمكن أن يكونوا رؤساء نوبات العمال فعقد اجتماعًا مع العمال أولًا وصرح لهم بوجود أخطاء كبيرة تؤذن بانهيار المبنى وأن المسؤول عنها هم رؤساء النوبات وسوف يحاسبهم على تقصيرهم وتعجب العمال من هذه الوقاحة غير أنهم سكتوا وأضمروا في نفوسهم شيئًا.
ثم عقد اجتماعًا آخر مع التجار ليقول لهم الأمر ذاته وأظهر التجار أنهم قد اقتنعوا.
وانصرف شادي إلى بيته مسرورًا وهو يحمد عبقريته التي خلّصته من هذه الورطة، وقال في نفسه فرحًا: لقد خرجت منها كما تخرج الشعرة من العجين.
وفي الصباح وبينما هو يستعد للخروج من البيت طرق الباب فلما فتح وجد سيارة الشرطة تطلبه للذهاب معهم.
وفي المحكمة ظهرت الحقائق؛ شادي محتالٌ مغرورٌ وليس مهندسًا ومن حسن حظ التجار أن المبنى لم يترك تحت إشرافه وإلا كان سيغدو بعد مدة وجيزة كومة من الركام.
أُلقي شادي في السجن وحُكم عليه بمبلغ كبير لتعويض الضرر الحاصل على التجار.
وعُهد بالبناء إلى مهندس خبير فعلًا بإتمام المشروع وكان أمام هذا المهندس الكثير من العمل ليُقوِّم الاعوجاج ويصحح الأخطاء التي تسبب بها كِبْرُ شادي وغروره.