لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٥٤ – ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ⁩

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

 

عن ثوبانَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ” وفي رواية: “وهُمْ كَذلكَ”. رواه مسلم في صحيحه، وللحديث روايات في ذات المعنى.

هم ثابتون على الحق، ظاهرون قاهرون لعدوهم، وإنهم منصورون من الله عز وجل، مخذولون من العباد ولا بد، فذكر الشيء دليلٌ على وجوده، وهذا المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ”، يتخاذل أهل الوَهَنِ والمنافقون، فهذه سنةٌ دائبةٌ ما تعاقبَ الليل والنهار، ولقد خُذِلَ الأنبياءُ والمرسلون من أقوامِهم كلِّهم أو جلِّهم، والدنيا تجري بالأمثال، ويزداد الوهنُ والنفاقُ كلما تقدم الزمان.

مخذولون، لكن لا يضرهم من خذلهم، لا من الجانب الماديِّ، فالله أمر بإعدادِ المستطاعِ ووعد بالنصر على ما كان منه، ولا من الجانب المعنويِّ، فمن شرى نفسهُ ابتغاء مرضاةِ الله وعاهدَهُ على الثباتِ، لا يَهُزُّ ثباتَه ويقينَهُ تكالبُ الأعداءِ ولا تخاذلُ من يرجو نُصرَتَهم، إنما فقط يَجِدُ مرارةَ خِذلان القريب، ويشعر بالأسف على من فرَّطَ بالجهادِ وأهلهِ من المسلمين المُكلَّفين.

إن قيامَ المرءِ أو الطائفةِ من الناس لهذه المهمة السَّاميةِ -مهمة نصرة الحق- اختيارٌ من الله، والنصرُ من عند الله، والخِذلانُ الذي يؤثر ويخشاه المؤمنون، هو أن يخذِلهم الله، فحتى إن تحققت أسباب النصر وتمَالَأ الخلق لنصرة من خذله الله؛ لا يُنصَرُ، وإن تخلفت الأسباب وتمالأ الخلق على خِذلان من نصره الله؛ لا يُخذَلُ، قال الله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران : 160].

وها هي الأمثلة الواقِعيَّةُ التي تدحضُ قولَ المُمارِي: “ذاك عهدُ الأنبياءِ وأصحابِهم”، ليُثبِّطَ النَّاسَ ويُخذِّلهم، وقعت هذه الأمثلة في هذا الزمان عياناً، ممن اجتمع لقتالهم أممٌ، وخُذِلوا من عامَّةِ أبناءِ الأمَّة، فثبَّتَهم اللهُ ونصرهُم، مما أذهلَ العالم الذي جنحَ إلى الماديَّةِ وأنكرَ الخوارقَ والمعجزاتِ، وإلا فكيفَ انتصرتْ طالبان المحاربة دولياً وداخلياً، وكيف صمدتْ غزَّةُ المحاصرةُ، وكيف بقيتْ الثَّورةُ السُّورِيَّة، وكيف بقيَ المجاهدونَ في اليمنِ والصومالِ ومالي وغيرها من بلادٍ، في بحرِ تكالبٍ عالميٍّ وخِذلانٍ واضحٍ مستعلِنٍ صارخ، كيف بقي هؤلاء لولا أن عنايةً إلهية ونصراً وتثبيتاً ربانياً يَتَنزَّلُ على عباد الله الصادقين.

إن وجود أهل الحق دليل واضحٌ على نصرِهم وعدم تأثرهم بالخِذلان، في هذا الزمانِ الذي اختلَّ فيه ميزانُ القوةِ، وأصبحت المقارنةُ بين ما يمتلكه أهل الباطلِ والكفرِ من عددٍ وعُدَّةٍ، وما يمتلكه أهل الحق من عددٍ وعُدَّةٍ، مقارنةٌ عبثيَّةٌ أو مرعبةٌ مثبِّطةٌ، في عرفِ من لا يستذكر الوعد الإلهيَّ ولا يستشعر المعيَّةَ الإلهيَّةَ، فالماديُّ الذي لا يؤمنُ إلا بما يرى لا تقنعهُ الأمثلةُ الواقعيَّةُ لثباتِ ونصرِ أهل الحق الذين خذلهم، ذلك لأنه خذلَ نفسهُ ابتداءً، وتناقضَ معها حتى في الماديَّةِ ورأيِ العين الذي يدّعيه.

إن هذه الطائفة المنصورة التي تتوزَّع في بلاد المسلمين، توزُّعَ المجاهدين الصادقين المخلصين، جاءت مؤيداتٌ من نصوصِ الوَحيينِ تُركِّزُ على الذين يوجدون في الشام منهم، كنصوصِ بَرَكَةِ الشام، ونصوصِ اختيار النبي صلى الله عليه وسلم أرضِ الهجرةِ وجندِ الله الذين في الشام، وحديثِ أكنافِ بيتِ المَقْدسِ، وحديثِ أهلِ الغَربِ، وحديثِ صلاحِ أهلِ الشامِ، وأحاديثَ أخرى، ووقائعَ ومعامعَ كثيرةٍ حدثت في الشام نصر الله فيها جنده، تُؤكِّدُ المعيَّةَ والنُّصرةَ الإلهيَّةَ لأهل الشام، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك.

وإن النصرَ للدين أساساً، وهو نصرُ الله يؤتيه من ينتسبُ إليه من عباده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات : 171-173]، فمن يحقق في نفسه مضمونَ الجُندِيَّةِ لله عزّ وجل، وينصر الدين بتجرُّدٍ وإخلاصٍ، فإنما ينصرُ نفسهُ عندما يضعها في موضع النُّصرةِ، قال الله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت : 6]

أما الناكبُ عن الطريقِ، والمرتدُ على دبرهِ، والمنقلبُ على عقبيهِ، فلن يضرَّ إلا نفسه، وهو خاذلٌ مستبدلٌ مخذولٌ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة : 54].. اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وأعنا وانصرنا على أعدائك وأعدائنا… اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى