الدولة في الإسلام والدولة الحديثة والنظام العالمي – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٩ – شعبان ١٤٤٦ هـ
مجلة بلاغ العدد ٦٩ - شعبان ١٤٤٦ هـFebruary 04, 2025
![](http://i0.wp.com/fromidlib.com/wp-content/uploads/2025/02/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9.jpg?resize=565%2C470&ssl=1)
الأستاذ: حسين أبو عمر
نشأ النظام الدولي الحالي، بما يتضمنه من قواعد ومعايير وقوانين، ومن هيئات ومؤسسات، ليعبر عن قيمٍ وثقافةٍ ورؤيةٍ وأيديولوجيات الدول المكونة/الضامنة له، “الغرب”، وليعالج الإشكاليات التي كانت تواجهها الدول الغربية في فترة ما قبل نشوئه، وليضع حدًا للحروب التي كانت تعاني منها هذه الدول في أكثر تاريخها، وليضمن لها تحقيق مصالحها ونفوذها واستمرارية هيمنتها على العالم..
ولا شك أن الإسلام يتعارض مع ذلك كله بشكلٍ جذريٍّ.. يتعارض مع شكل ووظيفة الوحدات المكونة لهذا النظام الدولي، “الدول”، ويتعارض مع القواعد والقوانين والقيم المنبثق منها هذا النظام، ويتعارض مع شرعية الهيئات المؤسسات التي أنتجتها هذه الدول، ويأبى كل الإباء أن تكون الهيمنة والسيادة والعلو للكافرين ولقوانينهم على الشريعة وعلى المسلمين..
*الإسلام والدولة الحديثة:
فالإسلام يتعارض ابتداءً مع شكل ووظيفة الوحدة الأولى التي تركب منها هذا النظام الدولي الحديث؛ إذ أن الجذور الأولى التي نشأ عليها النظام الدولي الحديث، وظلت مستمرةً معه حتى الآن، هي الدولة القومية العلمانية، بينما الدولة في الإسلام هي دولة الأمة وليست دولة العرق أو القومية، والسيادة فيها لله وحده وليست للبشر، وهذا التناقض لاحظه حتى بعضٌ من المفكرين الغربيين، في كتابه «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي» يقول صموئيل هانتنجتون: “فكرة سيادة الدولة القومية لا تتطابق مع فكرة السيادة (أو الحاكمية) لله وأولوية مصالح الأمة”.
أما الغاية التي وُجدت لأجلها الدولة في الإسلام، والمهام المناطة بها فتختلف عن الغاية التي قامت من أجلها الدولة القومية.. إذ إن الغاية التي قامت لأجلها الدولة الإسلامية هي إصلاح دين الناس ابتداءً، ومن ثم إصلاح دنياهم تبعًا لذلك..
في كتابه «غياث الأمم في التياث الظلم» يقول أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: “فَالْقَوْلُ الْكُلِّيُّ: أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِيفَاءُ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَالْمَقْصِدُ الدِّينُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَمَدَّ اسْتِمْرَارَهُ مِنَ الدُّنْيَا، كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَرْعِيَّةً”.
ويبين هذه الغاية رفاعي سرور -رحمه الله- في كتابه «التصور السياسي للحركة الإسلامية» بقوله:
“فالدولة الإسلامية أساسها نشر الدعوة والعقيدة..
والدولة هي مقتضى التوحيد، لأن الدولة هي الحُكم، والحُكم هو مقتضى التوحيد..
والدولة هي التمكين للدين في الأرض..
والدولة هي الأداة الأساسية لإقامة الدين..
الدولة لرفع الاستضعاف عن المسلمين..
الدولة لرفع الفتنة من جانب غير المسلمين..”
وأما مهام من يكون على رأس الدولة فيشرحها الماوردي -رحمه الله- في كتابه «الأحكام السلطانية» حيث يقول:
“أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ..
الثَّانِي: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ..
الثَّالِثُ: حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَرِيمِ..
وَالرَّابِعُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ؛ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَن الِانْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إتْلَافٍ وَاسْتِهْلَاكٍ.
وَالْخَامِسُ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ..
وَالسَّادِسُ: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَدْخُلَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِيُقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..”
فهذا هو شكل الدولة في الإسلام، وهذه هي الغايات التي قامت لأجلها، وهذا ما يتناقض كليا مع شكل الدولة التي قام عليها النظام الدولي “الغربي” الحديث، يقول عنها هنري كيسنجر في كتابه «النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ» بعد أن ساق عددًا من أساسيات وقواعد الإسلام: “كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًا شبه كلي وقلبًا لنظام وستفاليا العالمي، لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركة الإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي، لأن الدول علمانية”.
*الإسلام والنظام الدولي:
والإسلام، كما أنه يتناقض مع شكل ووظائف الأجزاء المكونة لهذا النظام الدولي، أي الدول، فإنه كذلك يتناقض مع الكل، أي النظام الدولي نفسه.. يتناقض مع القواعد والقيم والأيديولوجيات التي قام عليها هذا النظام الدولي، ومع التشريعات والقوانين التي شرعها، ومع مصدرية هذه القيم والأيديولوجيات والقوانين والتشريعات، ومع الكثير من مؤسسات هذا النظام، وصلاحياتها؛ حيث نشأ هذا النظام من قيم وثقافة وأيديولوجيات الغرب: من علمانية، وليبرالية، وفردانية، ورأسمالية، واشتراكية…، والتي أنتجها العقل الغربي، أو بعبارة أدق الهوى الغربي؛ إذ لا يمكن وصف الانحراف والشذوذ وانتكاس الفطرة الذي وصل إليها الغرب، ويحاول فرضه اليوم على المجتمعات الأخرى بالعقل.
يقول صموئيل هانتنجتون في كتابه «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي» عن هذا التعارض: “المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته..”.
وكذلك لا يقر الإسلام بشرعية الهيئات والمؤسسات المنبثقة عن هذا النظام، التي أوجدت كأدوات لضمان الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدول التي شكلت النظام الدولي.. وكيف يقر بشرعية مجلس أمن، تتمتع فيه خمس دول فقط بصفة العضوية الدائمة وبحق النقض “الفيتو”، وتتحكم بمصير باقي الدول!!
هذه المؤسسات التي بات حتى بعض كبار المفكرين الغربيين يشكك بشرعيته، يقول ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، في كتابه «عالم في حالة من الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم»: “مجلس الأمن نفسه، لا يستحق شرعية منح الشرعية لعمل ما، وذلك من منطلق أنه هو نفسه مشكوك في شرعيته”.
والإسلام يأبى كل الإباء أن تكون والهيمنة والتسلط والعلو للكافرين على المسلمين، كما هو الحال في النظام الدولي القائم، قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
فالإسلام يطرح شكلًا للدولة، ونموذجا للنظام الدولي، يختلف عن النموذج الغربي القائم..
ولقد عبر كيسنجر في كتابه «النظام العالم..» عن تفرد الإسلام بكل ما سبق بجملة مختصرة، إذ يقول: “كان الإسلام دينا أولًا، دولة متعددة الإثنيات ثانيًا، ونظامًا عالميًا جديدًا ثالثًا، في الوقت عينه”.