الحاضنة الشعبية وأثرها في العمل الجهادي – مجلة بلاغ العدد ٦٧ – جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

مقدمة لا بدّ منها:

إنّ القارئ للتاريخ والباحث فيه يجد أنّ الكفار قد وصلوا إلى مرحلةٍ متقدمةٍ ومستوىً متطورٍ في إدارة المعركة، واستخدامهم لكل مناحي الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، وهذا كله يدخل ضمن المكر الكبّار الذي يمكرونه للمسلمين خاصةً وللبشرية عامة.

وإنّ من وسائل انتصاراتهم التي يستخدمونها ضد المسلمين عامةً وطليعتهم المجاهدة خاصةً إحداث فجوةٍ عميقةٍ وشرخٍ كبيرٍ بين المجاهدين وحاضنتهم الشعبية، لأن أعداءنا يعلمون أنّ من أهم أسباب صمود المجاهدين وجود حاضنةٍ قويةٍ تحميهم وتقف خلفهم، لذلك عملوا جاهدين على تهيئة الأسباب والعوامل التي تحول بين المجاهدين وحاضنتهم.

قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

وقال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46].

وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22].

وقال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ:33].

إنّ من رحمة الله جلّ جلاله في عباده المسلمين عامةً والمجاهدين خاصةً أن جعل الجزاء من جنس العمل وهذا من تمام عدله تباركت أسماؤه وتقدست صفاته أن جعل المكر يحيق بأهله ويرتدّ عليهم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].

وفي هذا المعنى يقول الإمام محمد بن كعب القرظي رحمه الله: “ثلاث هنّ راجعات على أصحابها: المكر والنكث والبغي، في المكر قال ربنا: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وفي النكث قال تعالى: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} [الفتح:10]، وفي البغي قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم} [يونس:23]”.

ولأهمية الحاضنة الشعبية في حياة المجاهدين وحتى لا يغفلوا عنها نفرد لها مجالًا واسعًا في هذا المقال للحديث عن الحاضنة سواء في ثورات بلدان مسلمة أو غيرها.

*الحاضنة الشعبية: هي تبني الشعوب والجماهير لقضيةٍ ما، والتحرك والسعي للزود والدفاع عنها.

*الحاضنة الشعبية في القرآن والسّنة:

قال تعالى على لسان لوط عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ورحمةُ اللهِ على لوطٍ، إنْ كان لَيأوي إلى رُكنٍ شديدٍ؛ إذ قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، فما بَعَث اللهُ مِن بَعْدِه نبيًّا إلَّا في ذِروةٍ مِن قَومِه» رواه الترمذي.

وقال تعالى في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91].

وفي قوله تعالى على لسان عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].

وفي سيرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تجد آثار الحاضنة الشعبية في عهده المكي والمدني من خلال: إنذاره لعشيرته وأهله، ثم لقريش، وبعدها عرضه صلى الله عليه وسلم لدعوته على القبائل وخاصةً في مواسم الحجّ، ثم ذهابه للطائف صلى الله عليه وسلم، وتأتي بعدها مرحلة الهجرة إلى الحبشة، ثم لقاؤه بالأنصار في بيعتي العقبة، وبعدها إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتوج تلك الحاضنة والمسيرة بهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

*بعض كلام أصحاب التجارب المختلفة عن الحاضنة الشعبية:

يقول الشيخ المجاهد عبد الله عزام رحمه الله: “والحركة الإسلامية تمثل الصاعق الذي يفجر أطنان المتفجرات، فالشعب هو المتفجرات، والحركة الإسلامية هي الصاعق الذي يشعلها ويفجرها، ولا تستطيع حركة إسلامية مهما كانت أن تواصل حربًا طويلة الأمد ضد دولة، ولو كانت صغيرة، فضلًا عن أن تقف سنواتٍ أمام دولة كبرى، والحركة إذا عُزِلت عن الشعب فقد قضت على نفسها بالموت، كالغصن إذا قُطع من شجرته، مهما كان ناضجا كبيرا فإنه يذبل ويموت”.

ويقول خالد مشعل بعد خروج الصهاينة من غزة قديماً: “لولا الحاضنة الشعبية الكبيرة ما انتصرت المقاومة في غزة” انتهى، سائلين الله أن يدمر اليهود وأن ينصر أهلنا في فلسطين.

ويقول روبرت تابر في كتابه حرب المستضعفين: “والآن يجب أن نبين أنّ الشعب يشكل مفتاح الصراع كله، وفي الواقع ومهما بدت الفكرة مُغيظة للمحللين الغربيين فإن الشعب هو الذي يقود الصراع، فرجل العصابات ينتمي إلى الشعب نفسه” إلى أن قال: “إنّ رجل العصابات إنما يقاتل بمعونة الجماهير الشعبية المدنية، التي تشكل تمويهه، ومنابع إمداده، ومصدر تطوعه، وشبكة اتصالاته ومخابراته الفعالة في كل مكان”.

وفي كتابه حرب المستضعفين ذكر دراسة ثلاثة عشر حربًا للمستضعفين، وبيّن أن عشرةً منها نجحت بسبب احتضان الشعب لهم بينما فشلت ثلاثة والسبب نفور الحاضنة منهم.

ثم يقول في خلاصة كتابه: “من المهم أن نعي أن الشعب عندما ييأس من ثورةٍ يرضى بأقل الحقوق، حتى بحكومةٍ منظمةٍ مستبدةً أقل استبدادا من سابقتها”.

ويقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “كلّ أمر تُحْمَل عليه الكافة فلا بدّ له من العصبية”، ويعقب بقوله: “وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية” إلى أن قال: “وأحوال الملوك والدول راسخةٌ قويةٌ لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر”.

*وهذه بعض النصائح في كسب الحاضنة الشعبية:

-1 نشر الوعي لأهمية الحاضنة الشعبية على جميع المستويات الفردية والقيادية، وهذا من الإعداد الذي أُمِرنا به.

-2 إعداد برامج تدريبية تشمل: الفرق والمجاميع التي تحتك بالناس والمتصدرين للدعوة.

-3 السيطرة على المنابر والمساجد والإعلام لأنها أعظم معينٍ على استمالة الشعب لطرف المجاهدين.

-4 إقامة علاقةٍ مع الجماهير تُشعرهم أن المجاهدين يقاتلون بالنيابة عنهم ودفاعًا عن ممتلكاتهم وأعراضهم.

*نموذج في العصر المعاصر عن الاستفادة من الحاضنة الشعبية:

إذا نظرت إلى جهة الشرق تجد الأنموذج المشرق الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار، أعني طالبان القوة والعنفوان طالبان الشعب والحاضنة طالبان القوة والفتوة، التي استطاعت بعد توفيق الله إلى استمالة الحاضنة الشعبية إلى جانبها ووقفت معهم خلال سنوات الحرب الطويلة ضد الاتحاد السوفييتي ثم ضد طاغوت العصر أمريكا وحلفائها، وانتصرت بفضل الله عليهم، وإنّ من أعظم أسباب الانتصار بعد الله عزّ وجل وقوف الحاضنة معهم، وينبغي أن تدّرس تلك الحالة لكل العاملين للإسلام.

لا يختلف عاقلان أن وجود الحاضنة الشعبية تذلل الصعاب وتسهل العمل الجهادي وتؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، وواجبٌ على كل مجاهدٍ العمل على كسب الحاضنة الشعبية وخاصةً في ظل وجود كثيرٍ من العوائق التي تعرقل سيره الجهادي في تحرير العباد والبلاد من الأنظمة الوضعية إلى العيش في ظلال شريعة الرحمن.

سائلين الله أن يلهمنا رشدنا وأن يستخدمنا في طاعته ومحابه ومرضاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى