البالون المُعلَّق – مجلة بلاغ العدد ٦٧ – جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
الشيخ: المنصور بالله الحلبي
عندما كنا صغارًا -ولا زلنا صغارًا في مدرسة الحياة- نربط البالون بخيطٍ دقيقٍ حتى لا يطير في الهواء، أو كنا نملؤه ماءً حتى لا يرتفع ويفارقنا فراق الروح للجسد، وما إن نغفل عنه وتأتي رياحٌ حتى يفلت من أيدينا فيبدأ البكاء الذي لا ينتهي إلا بدرسٍ من الأم الحنون عنوانه تسكت أو…..!!
ذكرني هذا المشهد بفيضٍ من الحوادث المتكررة التي لا تنتهي..
لتجلس متربعًا واضعًا كفيك تحت ذقنك، تشاهد مسلسل الحياة، وتتأمل قصة الذكريات..
فتضحك تارة وتبكي أخرى..
يتعظ المرء مرةً، ويفرح أحيانًا، ويبكي أحيانا..
أحداثٌ متلاحقةٌ كالتوائم المتماثلة، تُنبيك عن قيمة الأشخاص الحقيقية والوهمية.
فترى الوضيعَ يُحترم لأنه صار ذا مال، فإذا ذهب ماله عاد له إناؤه الذي ينضح فيه.
وتجد آخر لا يُجيد في حديثه التأليف بين كلمتين مفيدتين، فيتقرب إليه الناس لأجل منصبه.
وذاك لا يجيد حمل السلاح يقولون عنه جنرال!!!
وآخر غربت شمس عقله، وغار ماء فهمه فوصفوه بالمُنَظِّر وجاره لم يحرز نصرًا في حياته أبدًا، وتنقّل من هزيمةٍ إلى أختها، ومن عارٍ إلى عارٍ، فيوضع على صدره أوسمةٌ كأنه خريطةٌ جغرافيةٌ للكرة الأرضية.
ولا يفوتنا ذكر مَن حفظ بعض آيات القرآن وشيئًا من الأحاديث النبوية -مع عدم إجادة قراءتها طبعًا- يُصدَّر للعامة على أنه سماحة الشيخ العلّامة الفهّامة…
إلى ما لا ينتهي من البوالين المعلّقة…
والمضحك أن صاحبنا هذا لبس ثوبًا فضفاضًا يحتاج عشرة رجالٍ أن يدخلوا معه ليلفهم جميعًا، ثم إذا ناديته باسمه مجردًا عن ذاك اللقب الوهمي قطّب جبينه، وتغيرت ملامح وجهه، وجلل جبهته غمامة سوداء..
“إلا الحماقة أعيَت مَن يداويها”.
ولكن ما إن ينقطع التعليق زال المعلَّق..
ولمّا فرغ الكيس مما فيه تجاذبته العواصف ولعبت به الأعاصير..
فإذا ذهب المنصب، ونضب المال، وانكسر الكرسي؛ تنكّر الإعلام، وعبست الوجوه، وانقلب له ظهر المِجَن..
وإنك لتعجب من رجلٍ شغل الناسَ بذكره، وملأ البرَ بمجده، وسار الركبان بحديثه، ثم فجأةً انطفأ السِّراج، وجفّ الماء، فصار هشيمًا تذروه الرياح!
وللصورة وجهٌ آخرُ..
أن صاحب القدر الحقيقي لا تزول قيمته ولو زالت الأوسمة، أو تسلطت عليه الألسنة المغتابة، أو سُوّدت صفحته أمام الناس.
فما هو إلا غبارٌ قد عَلِق على زجاج سيرته سرعان ما يزول بأول مسحةٍ فيعود الزجاج شفافًا نظيفًا..
فهو عالِمٌ وإن قالوا عنه جاهلٌ..
وهو صادقٌ وإن وصموه بالكذب..
وهو أمينٌ وإن اتهموه بالخيانة..
وسيعرف الناس قدره طال الزمان أم قصر..
وسيحتاجه الناس وإن استغنَوا عنه في بعض الأحيان:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدُّهم *** وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
فالبون شاسعٌ بين البالون الذي يطير بأدنى نفخةِ هواءٍ وبين جبلٍ قد رسخت أقدامه في أعماق الأرض..
فالذهب يبقى ذهباً، والحجر يبقى صخرًا..
ورحم الله امرأً جعل ميزانه موافقًا لميزان الشرع، فأنزل الناس منازلهم، فأكرمهم عند الله أتقاهم..