أهمية التربية الإيمانية والجهادية في الصراع – كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٧ – رجب ١٤٤٥ هـ
د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فبعد الانتصار الأفغاني الذي أبرز التجربة الطالبانية وشكّل معلماً هاماً على بداية أفول الحضارة الغربية الشيطانية بقيادة أمريكا وتزامناً مع حالة الركون والوهن والاختراق وتسلط الأعداء التي تعاني منها الساحة الشامية بشقها السوري من ناحية ومع معركة طوفان الأقصى وبروز نموذج المقاتل العقدي الصادق والحاضنة الصابرة الثابتة من ناحية ثانية أجد من المهم إعادة نشر هذا المقال المتعلق بأهمية التربية الإيمانية والجهادية في الصراع مع الأعداء، فأقول وبالله التوفيق:
يقول الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة : 2]، يقول ابن كثير رحمه الله: “وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولًا في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن”.
والواضح في الآيتين أنه تم قرن تعليم الكتاب والسنة بالتزكية، وقوله سبحانه: {وَيُزَكِّيهِمْ} “معناه يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان”، قاله: ابن عباس، وقيل: “يطهرهم من دنس الكفر والذنوب”، قاله ابن جريج ومقاتل، وهذه كانت حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مربيًا ومعلمًا، فعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا” رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الصحابة أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: “تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا، فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين”.
ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، أمرهم ربنا سبحانه بوظيفتهم فقال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران : 79]، يقول السعدي رحمه الله في معنى ربانيين: “علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل”.
وعليه؛ فالتربية الإسلامية معناها تعهد المسلم بالتكوين والترقية في منازل السير إلى الله تصوراً وسلوكًا، وهي كما يقول محمد قطب رحمه الله: “معالجة الكائن البشري كله، معالجة شاملة، لا تترك منه شيئًا، ولا تغفل عن شيء؛ جسمه، وعقله، وروحه، حياته المادية والمعنوية، وكل نشاطه على الأرض (فالإسلام) يأخذ الكائن البشري كله، ويأخذه على ما هو عليه، بفطرته، التي خلقه الله عليها، لا يغفل شيئًا من هذه الفطرة، ولا يفرض عليها شيئًا ليس في تركيبها الأصيل”.
ومما لا شك فيه، أن هذه الطريقة النبوية الشاملة في التربية والتعليم خرّجت جيل الصحابة رضي الله عنهم، ليكون جيلًا قرآنيًا فريدًا، وأنموذجًا يحتذى به على مر العصور، وانظر معي إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يثني على التابعين ويربيهم ويعلمهم فضل الصحابة عليهم فيقول: “لأنتم أكثر عملًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيرًا منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة”، وفي هذا بيان لثمرة التربية النبوية التي كلما تم الابتعاد عنها كانت النتيجة إقبالًا على الدنيا وغفلة عن الآخرة، مع ما يتبع هذا من ضعف وقصور على المستوى الفردي والجماعي في المجتمع المسلم.
والمتأمل في تاريخنا الإسلامي، يلمس بشكل واضح أثر الاقتداء بهذه الطريقة النبوية وأثر البعد عنها، وصولًا إلى واقعنا المعاصر الذي تسيطر عليه المنظومة الدولية الجاهلية، حيث توضع البرامج والمخططات لسلخ المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وسبيل سعادتهم وعزهم في الدنيا والآخرة، ولذلك؛ فمن الطبيعي التركيز على تغييب الطريقة النبوية في التربية الشاملة التي أصبح الداعون لها غرباء محاربين، وما يعنينا بهذا الصدد، هو توضيح ضعف الاهتمام بالجانب التربوي عند جماعات الإسلام الحركي أو قصره على جانب دون جوانب أخرى، وما يترتب على ذلك من خلل وآثار وخيمة.
*ولتبسيط الأمر، يمكن تقسيم التربية الإسلامية إلى:
أ- التربية الإيمانية؛ وهي أساس التربية في الإسلام وأصلها الذي يتفرع عنه كل أنواع التربية الأخرى، والقرآن المكي ركز بشكل خاص على هذه التربية التي تقوم على غرس شجرة الإيمان في قلوب المسلمين وتعهدها لتترقى هذه القلوب وتذوق حلاوة الإيمان، فيستقيم اعتقاد المسلم وسلوكه، ورغم أن هذا النوع من التربية موجه لكل مسلم، فالملاحظ في برامج جماعات الإسلام الحركي ضعف الاهتمام بهذا الباب على المستوى العام الأفقي والتركيز على المستوى الحزبي العمودي مع ضعف في التعهد بشكل عام.
ب- التربية التخصصية: وتقسم بشكل رئيس إلى:
1 – التربية الدعوية؛ وهي التي تُعنى بغرس فقه الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفوس المسلمين، وتعهده بحيث يكون كل مسلم حاملًا لدعوة الإسلام، داعيًا لها بلسان حاله ومقاله.
2 – التربية الجهادية؛ وهي التي تُعنى بغرس فقه الجهاد في سبيل الله في نفوس المسلمين وتعهده، لتغدو الحالة الجهادية ركنًا أصيلًا في حياة الفرد والمجتمع المسلم، فيُدفع الصائل وتُحفظ البيضة وتُحرر الأرض، فعن علي بن الحسين -رضي الله عنه- قال: “كنا نُعلَّم مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نعلم السورة من القرآن”. وكان الزهري يقول: “علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة”.
3 – التربية السياسية؛ وهي التي تُعنى بغرس فقه السياسة الشرعية وضوابطها في نفوس المسلمين وتعهدها، بحيث يتربى القيادات والأتباع على معاني السياسة الشرعية الراشدة بعيدًا عن نماذج السياسة الجاهلية الباطلة، وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين نماذج واضحات في هذا الباب، ومنها ترسيخ مبدأ الشورى وطرق التعامل مع الكفار المحاربين والذميين المعاهدين والمستأمنين، وتنظيم المجتمع المسلم وترسيخ العدل وغير ذلك كثير.
* والمتأمل لواقع جماعات الإسلام الحركي، يجد أنه بالإضافة لضعف الاهتمام بالتربية الإيمانية العامة، هناك اقتصار على جانب من التربية التخصصية وتضخيمه على حساب الجوانب الأخرى، مع ما يشوب الجانب المضخم من إفراط أو تفريط، الأمر الذي يفقد الشخصية المسلمة ذاك التوازن السني الناجم عن التربية النبوية الشاملة.
أخيرًا؛ تجدر الإشارة إلى أن أسلوب التربية بالصحبة وبالقدوات، باعتباره أساسًا في التربية الإسلامية الشاملة؛ اعتراه كثير من التقصير والتشويه، واستعيض عنه بنماذج جاهلية تسهم في تنفيذ البرامج الرامية لسلخ المسلمين عن دينهم.
ومما سبق، يتضح أن المجتمعات الإسلامية عامة، وجماعات الإسلام الحركي خاصة، تعاني من ضعف وقصور كبير في الجانب التربوي، الأمر الذي يساهم في تكريس الحالة الغثائيّة القائمة، كما أن الاهتمام من قبل جماعات الإسلام الحركي في جانب تربوي وتضخيمه على حساب الجوانب الأخرى، يسهم في تكوين قيادات وأفراد تفقد التوازن السني الناتج عن التربية الإيمانية العامة والشاملة.