ألا إنهم هم المفسدون – جولة في مذكرات تيمور لنك – مجلة بلاغ العدد ٥٠ – ذو الحجة ١٤٤٤هـ
الشيخ: محمد سمير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.. وبعد؛
فإن الكذب من أهم أسلحة الطغاة والمستبدين التي يستخدمونها لخداع الجماهير، ولهم في ذلك جِلد وجه صفيق كأنما قُد من جلد البقر، فيكذب أحدهم الكذبة التي تملأ ما بين الخافقين دون أن يرف له جفن، أو يلعثم لسانه بكلمة منها، ولا يفتأ في كل مجلس أو محفل يكرر أكاذيبه بوقاحة يُحسد عليها، مع أنه يوقن أن كل من يسمع أو يقرأ كلامه يعلم أنه كذاب، لا يتداخله في ذلك خلجة شك.
وحتى لا أطيل عليك -أيها القارئ- أقدم لك نموذجا عن ذلك وهو طاغية من أعتى طغاة الأرض، ومفسد من أكابر مفسديها، وسفاك للدماء ندر مثاله، وعزّ نظيره في الإجرام.
“يقدر العلماء أن عدد حملاته العسكرية تسببت في مقتل سبعة عشر مليون شخص، أي ما يقارب نحو 5 % من سكان العالم آنذاك” [ويكيبديا].
كان هذا الطاغية إذا استولى عسكريا على بلد جعلها يبابا وجعل عمرانها خرابا، وفتك بأهلها أجمعين، لا يفرق بين رجل وامرأة ولا بين صغير وكبير، وإمعانا في الإجرام فإنه كان يبني منارات مرتفعة من رؤوس القتلى.
نقض العهود، وغدر بعد الأمان، وأهدر المواثيق، وخاس بالأيمان، وأباح لجنده فعل كل محرم يطرأ على بالك، وحكم بالطاغوت، وجعل الشريعة وراءه ظهريا لم يرفع بها رأسا، ولم يحاكم إليها إنسا..
وإن كان قد استبد بك الشوق لمعرفته، فاعلم أني أعني عدو الله تيمورلنك.
وبعد كل هذه الجرائم فهاك ما سطره هذا الأفاك الأثيم في مذكراته [كتب تيمور مذكراته بالتركية، ونقلها إلى الفارسية أبو طالب الحسيني، ثم نقلها عن الفارسية إلى الإنكليزية تشارلز ستيورات، وأخيرا نقلتها إلى العربية دينا الملاح، وطبعتها دار الكتب الوطنية في “أبو ظبي” عام 2014م]:
يقول هذا المجرم: “أولا: لقد أقمت ميزان العدل لا أزيد على نصيب أحد ولا أنقص منه، وإنما أقمت القسطاس بين الناس عدلا.
ثانيا: أقمت العدل الصارم بين البشر وعملت على التمييز بين الحق والباطل.
ثالثا: أطعت أوامر الله والتزمت بقوانينه المقدسة، وبجلت أولئك الذين قد كرمهم.
رابعا: كنت رؤوفا رحيما بالبشر، ومنحتهم جميعا الفوائد والمزايا، وبهذه الصفات فزت بأفئدة مخلوقات الله، ولم أقم في أي وقت مضى بإثارة حفيظة أحد من ظلم أصابه وحيف لحق به، ولم أشح بوجهي عن متوسل ببلاطي وإنما كنت عونا لكل من التجأ إلي.
خامسا: اتبعت على الدوام تقديم الشؤون الدينية على الشؤون الدنيوية فقمت أولا بـتأدية فروضي وواجباتي تجاه الله لأنصرف بعد ذلك إلى مشاغلي الدنيوية.
سادسا: كنت أقول الصدق دوما وأستمع إلى الحقيقة أبدا، وأؤدي فروضي وواجباتي الدينية وأعمالي الدنيوية، وأتجنب مسارات الضلال والانحراف والاعوجاج…
سابعا: كنت أفي دوما بما أقطعه من الوعود لأي شخص كان، ولم أتنصل من أي اتفاق أبرمته، ولم أقترف أبدا ذنب ارتكاب أي عمل فيه استبداد أو ظلم، ولم أسمح لنفسي إطلاقا بالتردي في مواطن الرذيلة…
ثامنا: كنت أعد نفسي المؤتمن على ممتلكات الله، ولم أستنزف أيا من ممتلكاته المقدسة من دون تفويض من نوابه ألا وهم رجال الدين، وفي تحصيلي الإيرادات من عباده راعيت الرأفة والتعقل، ولم أستول أبدا على ثروة أي شخص أو ممتلكاته دون وجه حق، ولم أنشغل في مراكمة الثروة..
تاسعا: كنت أعد طاعة الله متمثلة في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فقد سرت على نهج محمد صلى الله عليه وسلم، ولم أفعل شيئا مخالفا للسنة النبوية.
عاشرا: نشرت عقيدة الإسلام في كل الأراضي الخاضعة لسلطاني وأيدت الدين، وبذلك جعلت حكومتي مستقرة؛ إذ تناهى إلى سمعي أن الدين والدولة صنوان، وأن كل سلطة عليا ليست مؤيدة من الدين سرعان ما تفقد كل ما لديها من سلطة ولا تطاع أوامرها…
حادي عشر: منحت السادة الأشراف والعلماء ورجال الدين الحق بالدخول عليّ من دون أن يعترض سبيلهم أحد، وعاملتهم دوما باحترام كبير…
ثاني عشر: لقد طلبت البركة من الزهاد وسواهم من الأشخاص الملهمين والأولياء الصالحين والتمست دعواتهم…، وبذلت قصارى جهدي من أجل ترتيب شؤون المسلمين، وتجنبت إراقة دماء أي منهم…، كما أني نأيت عن خطاب الأشرار والفجار…، ومن أجل الحفاظ على سلطتي العليا فقد تناولت العدل بيد والإنصاف بيد واهتديت بنور هذين المشعلين وأبقيت البلاط الملكي مضاء، وحينما تناهى إلى مسامعي أن الملوك هم ظل الله وأن الملك الأفضل هو الذي يسير وفق المنهج الذي رسمه الله في الصفح عن الآثمين فقد اتبعت خطى أولئك الملوك العادلين وغفرت لأعدائي” [ مذكرات تيمورلنك (ص23 وما بعدها)].
فأنت إذا قرأت هذه الضوابط التي زعم تيمورلنك التقيد بها والسير وَفقها خُيّل إليك أنك أمام محتذٍ لسيرة الخلفاء الراشدين، ولن تتردد حينها بجعلك هذا سادسهم وربما قدمته على عمر بن عبد العزيز فجعلته خامسا وجعلت عمر بن عبد العزيز سادسا.
* وهاك بعض جرائمه كما نص عليها المؤرخون نذكرها على سبيل الاختصار الشديد [من أراد الاستزادة فليراجع ما كتبه ابن عربشاه في كتابه “عجائب المقدور في نوائب تيمور”].
– تدميره خراسان وغدره بأهلها وإباحتها لجنده:
“ثم عاد إلى خراسان وقد عزم على الانتقام من سجستان، فخرج إليه أهلها طالبين الصلح والصلاح، فأجابهم إلى ذلك على أن يمدوه بالسلاح، فأخرجوا إليه ما عندهم من عدة، ورجوا بذلك الفرج من الشدة، فحلفهم وكتب عليهم قسامات بالغة أن مدينتهم غدت من السلاح فارغة، فلما تحقق ذلك منهم وضع السيف فيهم وأضاف بهم جنود المنايا عن بكرة أبيهم، ثم خرب المدينة فلم يبق بها شجر ولا مدر ومحاها فلم يبن لها عين ولا أثر، ورحل عنها وليس بها داع ولا مجيب” [ عجائب المقدور في نوائب تيمور، ابن عربشاه، طبعة كلكتا (36 وما بعدها)].
ومع واقعة الغدر هذه وما سيأتي من وقائع أخر لا يستحي تيمور أن يكتب في مذكراته أنه دائم الوفاء بالعهود لا يحنث ولا يغدر، بل إنه يتبجح بكل وقاحة بقوله: “ولما أبلغ عباس بهادر الأمير حسينا الرسالة أرسل لمقابلتي اثنين من أقرب القادة المؤتمنين…، وبينما كان هذان القائدان على وشك الدخول إلى حضرتي أخبرني بعض كبار القادة أن هذين الشخصين هما عماد سلطة حسين فيجدر بنا أن نكبلهما بالقيود ونباغت ذلك الأمير بالهجوم، فأجبتهم: لا يليق بكرامتي أن أنكث عهدا أو أكفر بالله أو أنكر كتابه الكريم” [مذكرات تيمور (ص137)].
– تدمير خوارزم وقتل سلطانها وسلب كنوزها:
“ووجه ركاب الغضب إلى خوارزم فأخذها وقتل سلطانها وهدم أركانها وخرب بنيانها، وولى على ما بقي منها نائباً من عنده ونقل جميع ما أمكنه نقله منها إلى ممالك سمرقنده” [ عجائب المقدور، (ص48)].
– فجور جنده بأصبهان وتعديهم على الحرمات والأعراض:
“فخرجوا إليه وصالحوه على جمل من الأموال، فأرسل فيهم لاستخلاصها الرجال، فوزعوها على الجهات، وفرضوها على الحارات والمحلات، وتفرق فيهم المستخلصون، فكانوا يعيثون فيهم ويعبثون، واستطالوا عليهم فجعلوهم كالخدم، وتوصلوا إلى أن مدوا أيديهم إلى الحرم، فانتكوا منهم أي نكاية” [ المصدر السابق (ص66)].
– غدره بحاكم ديار بكر بعد إعطائه الأمان وسفك دمه ودم أهله وقومه:
“فحاصرها وأخذها في صفر بالأمان، ونزل إليه متوليها حسن بن يولتمور متدرع الأكفان، وفي حضنه وعلى عاتقه أطفاله، وقد ودعه أهله وماله، وأسلمته خيله ورجاله، وذلك بعد أن عاهده أن لا يريق دمه، فأرسله إلى حائط فقضه عليه وردمه، وقتل من بها من رجال وسبى النساء وأسر الأطفال، وجعل يعيث ويستأصل، ويقطع في الفساد ويوصل” [المصدر السابق (ص97)].
– سفكه الدماء وعيثه الفساد في الموصل ورأس العين والرها:
“حتى أناخ يوم الجمعة حادي عشرين صفر سنة ست وتسعين على الموصل، فأخربها وكسرها، ثم أتى رأس عين ونهبها وأسرها، ثم إلى الرها تحول، ودخلها يوم الأحد غرة شهر ربيع الأول، فزاد عيثاً وفساداً، وجارى فيما عاند ثموداً وعادا” [المصدر السابق نفسه].
– جرائمه في ماردين:
“فأخذوا المدينة عنوة وقسراً، وملؤها فسقاً وكفرا” [المصدر السابق (ص100)].
– ما فعله من القبائح في مدينة آمد:
“وأرسل إلى آمد الجنود مع أمير يدعى سلطان محمود، فتوجه بجيش طام وحاصرها خمسة أيام وأرسل يستمده عليها، فتوجه بنفسه إليها، وأحلها الهوان، فطلبوا الأمان، فأمن البواب، ففتح له الباب فدخل من باب التل، ووضع السيف في الكل، فأباد الجميع وأبار العاصي والمطيع وأسروا الصغار، وهتكوا أستار الحرم وحرم الأستار، وأذاقوا الناس لباس البأس، والتجأ بعض الناس إلى الجامع، فقتلوا منهم نحو ألفي ساجد وراكع، ثم حرقوا الجامع، ورحلوا وتركوها بلاقع” [المصدر السابق (102 وما بعدها)].
ومع هذه الفظائع فتيمور يزعم أنه ينشر الإسلام ويدافع عنه، بل إنه يزعم أن معاركه في الهند كانت لأجل ذلك، مع أن الحقيقة أنها كانت كسائر المعارك التي خاضها من أجل التوسع والسيطرة والملك، وهو عندما دخل الهند لم يفرق في القتل بين المسلم والكافر بل سوى بينهم جميعا في إزهاق الأرواح وسفك الدماء وسلب الأموال.
يقول تيمور: “وقد شرعت على إثر تلقي هذه البشارة في إنزال الخرائب بمعابد الهند ونشر الدين المحمدي في تلك البلاد، وحينما دمرت معبد كوكيل الذي كان أضخم المعابد في تلك المنطقة حطمت تماثيله بكلتا يدي، وقبل ذلك كان البراهمة قد جلبوا لي أحمالا عدة من الذهب والتمسوا مني أن أكف عن إيذاء آلهتهم، فقلت لهم: سأحطم آلهتكم لكي أتيح لها فرصة القيام بمعجزة شفاء نفسها بنفسها” [مذكرات تيمور ص(34)].
– غدره بالمقاتلين في سيواس بعد إعطائهم الأمان وإحالة المدينة إلى ركام وأطلال:
“وبعد أن حلف للمقاتلة أن لا يريق دمهم، وأنه يرعى ذممهم، ويحفظ حرمهم وحرمهم، ولما فرغت المقاتلة، واستمكن من المقاتلة، ربطهم في الرباق سربا، وحفر لهم في الأرض سربا، وألقاهم أحياء في تلك الأخاديد، كما ألقي في قليب بدر الصناديد، وعدد من ألقى في تلك الحفر كان ثلاثة آلاف نفر، ثم أطلق عنان النهاب، وأتبع النهب الأسر والخراب، وكانت هذه المدينة من أطراف الأمصار، في أحسن الأقطار، ذات عمائر مكينة، وأماكن حصينة، ومآثر مشهودة، ومشاهد للخير معهودة، ماؤها رائق، وهواؤها للأمزجة موافق، وسكانها من أحشم الخلائق، يتعانون التوقير والاحتشام، ويتعاطون أسباب التكلف والاحترام، وهي متاخمة ثلاث تخوم الشام وأذربيجان والروم، وأما الآن فقد حلت بها الغير، وتفرق أهلها شذر مذر، وانمحت مراسم نقوشها، فهي خاوية على عروشها” [عجائب المقدور (ص172)].
يكتب تيمور في مذكراته بلغة طهرية، تجعلك تظن أنك تقرأ لشخص أورع من حاتم الأصم: “ونتيجة لهذه النصيحة فقد امتنعت منذ ذلك الحين عن إلحاق الأذى والضرر بيني وبين البشر، وأحجمت عن إلقاء بذور العداوة والشقاق بينهم” [مذكرات تيمور (ص37)]، وللعلم فإن هذه النصيحة كانت قبل توجه تيمور إلى بلاد المشرق العربي، أي قبل جرائمه في حلب ودمشق وحماة وبغداد… إلخ.
بل إنه يشنع على أحد خصومه نقضه العهد ويعزو الهزيمة التي حاقت به إلى ذلك، فيقول: “لما كان بيننا من عهد راسخ وأقسمنا معا على القرآن ألا يحاول أحدنا الاعتداء على حياة الآخر، فإني لن أحنث بيميني، وهذه المصيبة التي نزلت برأسك ليس مصدرها عدائي لك، بل هي انتقام القرآن الكريم، وليس لي أي علاقة بالأمر، إلا أني لا أملك أن أخلصك من بين أيدي من يتعطشون لدمك لما نالهم منك” [المصدر السابق (150)].
– جرائمه في حلب وبنائه المنارات من رؤوس أهلها:
“وشرع في استخلاص الأموال، وضبط الأثقال والأنفال، وقد ملأت القلوب هواجس هيبته، وانتشر في الآفاق شرار صولته، ثم إنه لم يكتف بما أزهقه من النفوس، حتى بنى الميادين من الرؤوس” [عجائب المقدور (ص185)].
– غدره بجند قلعة حلب:
“وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة، وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة ما لا يحصى…، وعوقب غالب المسلمين بأنواع من العقوبة، وحبسوا بالقلعة” [المصدر السابق (192)].
– شرب الخمور واللهو بينما جنده يعيثون فسادا في حلب:
“ووقف سائر الملوك والنواب في خدمته وأدار عليهم كؤوس الخمر، والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر، وجوامعهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش” [المصدر السابق نفسه].
– جرائمه في دمشق:
“ودخل تمرلنك إلى دمشق ونهبها وأحرقها، وفعل فيها فوق ما فعل بحلب” [المصدر السابق (ص194)].
وتيمور صاحب هذه الجرائم يجد الجرأة ليعظنا في مذكراته بما وعظه به شيخه: “لذا يتعين على الإنسان أن يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسعى لإخضاع ما لديه من مشاعر بهيمية ووحشية، وأن يغرس في نفسه الصفات الحميدة والأخلاق الجديرة بالثناء” [مذكرات تيمور (ص38)].
– إهانة العلماء وتعذيبهم:
“وبينما هم يوماً قاعدون في حضرة ذلك البصير، وإذا بالقاضي صدر الدين المناوي في أيديهم أسير، وكان قد تبع السلطان في الهرب، فأدركه في ميسلون الطلب، فقبضوا عليه، وأحضروه بين يديه…، فتخطى الرقاب، وجلس من غير إذن فوق الأصحاب، فاستشاط تيمور وملأ المجلس لهباً وانتفخ سحره، وسجر غيظاً نحره، وشخر ونخر، ومخر بحر حنقه وزخر، وأمر طائفة من المعتدين، بالتنكيل بالقاضي صدر الدين، فسحبوه سحب الكلاب، ومزقوا ما عليه من ثياب، وأوسعوه سباً وشتماً، وأشبعوه ركلاً ولكماً، ثم أمرهم بتشديد أسره، وتجديد كسره، وترادف الإساءة إليه، وتضاعف الكسرات على رغم التصريفين عليه، فأخرج إخراج الظالم، يوم يولي مدبراً ما له من الله من عاصم، ثم تراجع تيمور إلى ما كان فيه، من ترتيب غوائله ودواهيه” [المصدر السابق (ص214)].
“وأخذ من أعيان الشام، ومشاهيرها الأعلام، قاضي القضاة محيي الدين ابن العز الحنفي بعد أن عاقبوه بأنواع العقاب وكووه، وسقوه الماء والملح وبالكلس والنار شووه” [المصدر السابق (ص236)].
ويبدي تيمور ندمه لأنه رد شفاعة أحد الأشراف عندما طلب منه عدم ارتكاب مجزرة بحق أهل شيراز، فيقول: “وإبان اجتياحي ولاية فارس التحق أهالي شيراز بمنصور شاه، وبعدما انضموا إليه نفذوا حكم الإعدام بالوالي الذي كنت قد نصبته عليها، ولذلك أمرت بتنفيذ مذبحة عامة بحق أهالي شيراز، عندها زارني السيد أبو إسحاق التقي الورع وناشدني أن ألغي ذلك الأمر القاسي، لكني لم أصغ إلى مناشدته، وفي تلك الليلة ذاتها تراءى لي في الحلم النبي صلوات الله عليه الذي عبس في وجهي، وقال: لقد قصد واحد من ذريتي بلاطك وطلب الشفاعة لعدد من الجناة، فلماذا لم تأبه بتلبية مطلبه وأنا سأشفع لك يوم القيامة؟ وحينما استيقظت أدركت الخطأ الذي ارتكبته فامتطيت جوادي فورا وانطلقت إلى مقر إقامة السيد والتمست منه العفو والصفح كما أني وضعت حدّا فوريا للمجزرة” [المصدر السابق (ص39)].
– إعطاؤه الأمان لأهل دمشق بعد مفاوضة الأعيان والعلماء ثم غدره بهم وإحالة دمشق إلى قفر يباب:
“وشرط لهم ولذويهم الأمان، على أن يدفعوا إليه أموال السلطان، وما له وللأمراء من أثقال، وتعلقات وأموال، ودواب ومواش، ومماليك وحواش، ففعلوا ما به أمر…، بل صرف همه إلى تحصيل الأموال، وتوسيق الأحمال بالأثقال، فلما حصل الثقل، وإلى خزائنه انتقل، طرح على المدينة أموال الأمان، واستعان على استخلاصها بهؤلاء الأعيان، وأقام عليهم دواوينه وكتبته، ونادى بالأمان والاطمئنان، وأن لا يبغي إنسان على إنسان، فمد بعض الجغتاي يده إلى غارة، بعدما سمعوا هذا النداء…، فبلغ ذلك تيمور، فأمر بصلبهم في مكان مشهور، فصلبوهم في الحريرين، برأس سوق البزوريين، ففرح الناس بهذه الفعلة، وأملوا خيره وعدله، وفتحوا من أبواب المدينة باب الصغير، وشرعوا يحررون أمر المدينة على النقير والقطمير، فوزعوا هذه الأموال على الحارات” [المصدر السابق (216)].
“وتصدى لاستخلاص الأموال من أهل الشام، كل غشوم ظلام، وكفور صدام” [المصدر السابق (221)].
“وحين ملأ جراب طمعه من نفائس ردنه، واستدر خلفاتها شيئاً فشيئاً صافياً ورونقاً حتى صفاها بقطنه، أمر بتعذيب هؤلاء الأعيان الكبار، فعذبوهم بالماء والملح وسففوهم الرماد والكلس وكووهم بالنار، واستخرجوا خبء الأموال منهم استخراج الزيت بالمعصار، ثم أطلق عنان الإذن لعساكره بالنهب العام، والسبي الطام، والفتك والقتل والإحراق، والتقيد بالأسر على الإطلاق، فهجمت أولئك الكفرة الفجرة على ذلك أشد الهجوم، وانقضوا على الناس بالتعذيب، والتثريب والتخريب، انقضاض النجوم، واهتزوا وربوا، وفتكوا وسبوا، وصالوا على المسلمين وأهل الذمم، صولة الذئاب الضواري على ضواني الغنم، وفعلوا ما لا يليق فعله، ولا يجمل ذكره ونقله، وأسروا المخدرات، وكشفوا غطاء المسترات، واستنزلوا شموس الخدور من أفلاك القصور، وبدور الجمال من سماء الدلال، وعذبوا الكبار والأكابر بأنواع العذاب، وبدا للخلق ما لم يكن في الحساب، واستخلصوا بإصلاء جواهر الناس النار منهم خلاصات الذهب، وصنفوا في استخراج النفائس من النفوس بأصناف العذاب مسائل يقضى منها العجب، وفرقوا بين الوالدة وولدها، والروح وجسدها، وذهلت كل مرضعة عما أرضعت، وجازوا كل نفس بما صنعت وبغير ما صنعت، وفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وصار لكل منهم يومئذ شأن يغنيه، وذل العزيز والكريم، وهان الخطير والجسيم، وطم البلاء، وعم القضاء، وطاشت الحلوم، وتبلدت الفهوم، وتراكمت غيوم الغموم، فأقسم بالله لقد كانت تلك الأيام، علامة من علامات يوم القيامة، وأسفرت تلك الساعة، عن أشراط الساعة، واستمر هذا النهب العام، نحواً من ثلاثة أيام.
ثم إنهم لما أنهوا العيث والعبث، وقضوا في حج فسادهم التفث، وأتموه بالفسق والجدال والرفث، وطافوا وسعوا في المنكرات، ورموا في البيوت النار وفي القلوب الجمرات، وأفاضوا ما أراقوا من دماء المسلمين الواقعين في الإحصار، رملوا في أشواط الإحراق فأرسلوا في حرم المدينة شواظاً من نار، وكان فيهم من روافض الخراسانية، فأطلقوا النار في جامع بني أمية فتشبثت النار بلهيبها، وساعدت الريح بهبوبها، فتساوقا في محو الآثار ريحاً وناراً، واستمر على ذلك بإذن الله تعالى ليلاً ونهارا، فاحترق ما بقي من النفائس النفوس، وانمحى بلسان النار ما سطر على لوح وجود المدينة من الدروس، فأمست تلك المغاني لا يسمع فيها ولا الهمس، وأصبحت (حصيداً كأن لم تغن بالأمس) وذلك بعد أن أظهروا ما أخذوا من أموال وأوسقوا منه الأحمال” [المصدر السابق (221 وما بعدها)].
ومع هذه الجرائم والقبائح والمنكرات يزعم تيمور الورع ” كنت على قناعة بأنني ولدت لكي أكون خليفة الله في الأرض، واعتقدت بأنني وهبت كل القدرات الضرورية، ومع ذلك فقد أصبحت شديد الورع، وكنت أتضرع على الدوام إلى الله من أجل التوفيق والسداد، وقدمت العديد من رؤوس الماشية والماعز إلى السادة الأشراف والعلماء…” [مذكرات تيمور (ص50)].
– تخريبه مساجد صفد وعماراتها:
“وخرب المدينة وأسوارها، ومحا آثارها، وهدم مآذنها وجوامعها ومنارها، وفك أساسها وأحجارها” [عجائب المقدور (245 وما بعدها)].
– ذبحه المسلمين في بغداد في عيد الأضحى، وإلزام جنوده أن يحضر كل واحد منهم رأسين:
“فأخذها عنوة يوم الأضحى، فتقرب على زعمه بأن جعل المسلمين قرابين وعليهم ضحى، ثم أمر من هو في دفتر ديوانه محسوب، وإلى يزك عساكره من الجند والجيش منسوب، أن يأتيه من رؤوس أهل بغداد برأسين، فسقوا كل واحد من خمرة سلب الروح والمال كأسين، ثم أتوا بهم فرادى وجملة، وجاروا بسيل دمائهم نهر الدجلة، وطرحوا أبدانهم في تلك الميادين، وجمعوا رؤوسهم فبنى بها مآذين، فقتلوا من أهل بغداد نحواً من تسعين ألف نفس صبراً، وبعضهم عجز عن تحصيل البغداديين فقطع رؤوس من معه من أهل الشام وغيرها أسرى، وعجز بعض عن رؤوس الرجال، فقطع رؤوس ربات الحجال، وبعض لم يكن معه رقيق، فاصطاد من وجده في طريق، أو اغتال من معه من رفيق، وفدى نفسه بعدو وصديق” [المصدر السابق (ص248)].
وما قولك بعد هذا إذا علمت أن تيمور شعر بالذنب عندما وطئ نملة بغير قصد فقتلها “وتقيدت بالشريعة بصرامة شديدة، واتبعت ما يمليه علي الدين، وقطعت العهد أيضا بألا ألحق الضرر بأي مخلوق من المخلوقات، وكلما كنت أفعل ذلك مصادفة أشعر بالأسف الشديد وهكذا، فبعد أن دست عن غير قصد نملة في أحد الأيام شعرت كما لو أن قدمي قد فقدت كل قوتها، فالتمست شفاعة الخلفاء الأول الراشدين، وأحسنت إلى البشرية جمعاء” [مذكرات تيمور (ص50)].
وبعد كل هذا يزعم تيمور أن اختياره للملك والحكم كان إلهيا ربانيا، وقد ردد هذا في أكثر من موضع في مذكراته: “وبعدما أمرت بأن تكون الخطبة باسمي من على المنابر اشترك السادة الأشراف والعلماء وكبار رجال الدين والفقراء جميعا بالدعاء لي…، لكن الخواجا عابد الذي كان أحد أشهر رجال الدين في ذلك العصر نهاهم عن الدعاء لي، وقال: “إياكم أن تبتهلوا من أجل هذا التركي القاتل والمتعطش للدماء الذي نفذ حكم الإعدام في عدد لا يحصى من المسلمين، ولا تكرروا التماس البركة له”، وفي تلك الليلة بالذات رأى الخواجا في الحلم أنني كنت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دخل وقدم فروض الطاعة والولاء لمحمد صلى الله عليه وسلم دون أن يرد له تحيته، وبعد حين نادى: يا رسول الله أتسمح لهذا البائس تيمور الذي قتل مئات الآلاف من أتباعك وأنزل الخراب بمنازل كثير من المسلمين أن يقف بالقرب منك في حين لا ترد لي تحية…، فأجاب بغضب: على الرغم من إهراق تيمور دماء كثير من أتباعي فقد كان الصديق والمعاضد لذريتي والمتحدرين من سلالتي، فلماذا تمنع الناس من الدعاء والتماس البركة له؟ وما إن أفاق الخواجا من نومه حتى جاء إليّ في تلك الليلة ذاتها طالبا العفو والغفران، وحينما بلغ هذا النبأ مسامع الناس رفعوا أيديهم مبتهلين أن يكتب لي الفلاح، ولما كانوا يرون أني أحظى بتأييد إلهي فقد شهدوا لي بذلك” [مذكرات تيمور (ص28)].
وفي مكان آخر يزعم أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وقال له: “نتيجة لما قدمته لأحفادي من الدعم والمساندة فقد قضى الله عز وجل أن يتربع اثنان وسبعون من ذريتك على عرش السيادة” [المصدر السابق (ص30)].
وختاما: فقس على تيمور كل طاغية في القديم والحديث؛ لتستنتج الأمر ذاته، فالكذب سياسة استبدادية يلجأ إليها الطاغية لتحسين صورته وخداع شعبه، ولا يستحي من كثرة الكذب؛ لأنه يستند إلى قاعدة: ما تكرر تقرر، ولسنا هنا بصدد الحديث عن الأثر النفسي لعظم الكذبة وتكرارها، غير أنا نرشد من أراد ذلك إلى كتاب “سيكولوجيا الجماهير” لغوستاف لوبون، فقد أسهب في بيان ذلك وأجاد، ولنكتف بهذا القدر، والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٠ ذو الحجة ١٤٤٤هـ