أعمال العشر الأول من ذي الحجة

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

من رحمة الله جل وعلا بعباده أن امتن عليهم بمواسم الطاعات التي يتضاعف فيها الأجر وتتنزل فيها الرحمة ويخسأ فيها الشيطان الرجيم.

ومن أهم تلك المواسم وأفضلها العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهي أيام ورد في مجموعها كثير من الأدلة التي تبين فضلها وشرفها؛ ومن ذلك:

– أن الله جل وعلا أقسم بها تشريفا لها وتعظيما، قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، قال الطبري في تفسير “ليال عشر”: “والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه”.

– أنها من الأيام المعلومات التي عُرفت بكثرة ذكر الله تعالى فيها، قال جل وعلا: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، قال ابن كثير في تفسيره: “عن ابن عباس: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به. ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي. وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل”.

– أنها أيام إتمام النعمة على نبي الله موسى عليه السلام وكذلك على رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾، قال ابن كثير في تفسيره: “الأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة، والعشر عشر ذي الحجة. قاله مجاهد، ومسروق، وابن جريج. وروي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾”.

– أنها أفضل الأيام التي يقع فيها العمل الصالح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء»، قال ابن رجب في لطائف المعارف: “لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين والقاعدين؛ فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج”.

* والأصل أن العمل الصالح بجميع أنواعه فاضل مبارك في هذه الأيام، وهذه تذكرة ببعض أنواعه تنويها وتذكيرا؛ فمن ذلك:

1- أداء الفرائض وترك المحرمات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، فالفرائض هي الأسس التي تبنى عليها السنن التي تأتي لتكميل الفرائض، وكلما قوي الأساس قوي كماله، بل السنن هي هبة للطائع، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾، وقال جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾.

2- الجهاد في سبيل الله تعالى: وهو من أفضل الأعمال؛ لذا سأل الصحابة عن تفاضل سنة الجهاد في غير العشر مع سنن الأعمال في العشر، فكانت سنن الأعمال في العشر أحب إلا لمن حاز أعلى وأفضل درجات الجهاد وهي الجهاد بالنفس والمال ثم بذلهما في سبيل الله تعالى، فقد سئل صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ: مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ»، فإذا وقع الجهاد الذي هو من أشرف أعمال السنة في العشر الأول من ذي الحجة التي هي من أشرف الأيام فلا شك أنه بذلك يحوز درجة من أعلى الدرجات في الفضل والكرامة لا يكاد يلحقه فيها شيء، ويا فوز من يسر الله له سبل الجهاد في سبيل الله تعالى في تلك الأيام وقد حُرم منه الكثيرون..

3- الحج والعمرة: وهما من أفضل الأعمال وتكرارهما تطهير للقلب من أدران الحياة، قال جل وعلا: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»، وقال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»..

4- الصلاة والصيام: والتطوع بهما يجعل العبد يرتقي في مراتب الفلاح، قال تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، وقال جل وعلا: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا»، وبما أن الأعمال الصالحة في العشر الأول فاضلة بالعموم فلا يحتاج كل عمل فيها إلى نص خاص يبين فضيلة الإتيان به في هذه الأيام، وتدخل كل الأعمال الصالحة في ذلك العموم ما لم يأت نص بغير ذلك، لذا فللصيام فضله في تلك الأيام عامة وخاصة يوم عرفة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»، إلا في يوم العيد وهو العاشر من ذي الحجة فيحرم الصوم فيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين؛ يوم الأضحى ويوم الفطر»..

أما بخصوص ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط»، فهذا خبر عما شاهدته ولكن هذا لا ينفي فضل الصوم في هذه الأيام؛ لأن قولها هذا ينفي رؤيتها صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كذلك، ومعلوم فضل صوم يوم عرفة، فنفي رؤيتها رضي الله عنها لا ينفي فضل العمل، فقد يصوم صلى الله عليه وسلم في غير يومها ولا تراه، وقد يفطر انشغالا بعبادة أخرى، إلى غير ذلك من الأمور.

5- الصدقة ونحر الهدي والأضاحي: وهما من العبادات المتعدية النفع الفاضلة، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾.

فيشرع التضحية بل ويشرع كذلك إرسال غير الحاج الهدي ليذبح بمكة المشرفة، والذبح خير من توزيع الثمن، ويسن تخير الذبيحة فكلما كانت أَنْفَس كانت أفضل، ومن أراد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ولا أظافره شيء من أول دخول شهر ذي الحجة إلى حين ذبح الأضحية.

6- الذكر والدعاء: وهما من عبادات اللسان مع القلب الفاضلة، قال تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، فيشرع الإكثار من ذكر الله والتكبير والتهليل والتحميد فيها، أما الجهر بذلك في الأسواق قبل دخول وقت تكبيرات العيد عملا برواية البخاري رحمه الله المعلقة: “كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما”، فقد قال ابن حجر في فتح الباري: “لم أره موصولا عنهما”، وقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ فمنهم من عده سنة، ومنهم من استحبه عند رؤية بهيمة الأنعام، ومنهم من عده بدعة؛ وجمهور الفقهاء لا يرون سنية الجهر بالتكبير في الأسواق عامة الأيام قبل دخول وقت تكبيرات العيد يوم عرفة، والغالب اليوم في المجتمعات تقليد هذا القول، ومراعاة ذلك مهم.

أما تكبيرات العيد فقال عنها ابن تيمية: “أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. وصفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة..: {الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد}. وإن قال: الله أكبر ثلاثا جاز”.

ويسن الإكثار من الدعاء يوم عرفة، قال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

7- التحلي بآداب يوم العيد: كالإكثار من التكبير، والتجمل لصلاة العيد، ومخالفة الطريق عند الذهاب للمصلى والإياب، وتأخير الأكل إلى بعد الانتهاء من صلاة عيد الأضحى والرجوع منها إن كان سيضحي بعد صلاة العيد، والتوسعة على الأهل وصلة الأرحام، وحفظ السمع والبصر…

أسأل الله أن يوفق عباده لما فيه صلاح دينهم ودنياهم وسعادة أخراهم وأولاهم، والحمد لله رب العالمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى