أثر سورة يوسف في طريق المصلحين – مجلة بلاغ العدد ٦٦
باحث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد:
أولاً: التعريف بسورة يوسف:
تسمى بسورة يوسف نسبة للنبي يوسف عليه السلام الذي وردت كل تفاصيل حياته في هذه السورة وليس لها غير هذا الاسم، ولم يذكر اسمه في غيرها من السور إلا في سورة الأنعام وغافر دون ذكر أي شيء من قصته، هي سورة مكية بإجماع العلماء وجرى الخلاف في الآيات الثلاث الأولى كما أخبر بذلك المفسرون إلا أن الإمام السيوطي أشار إلى أن هذا الخلاف واهٍ لا يُلتفت إليه، نزلت بعد سورة هود وقبل سورة الحجر، نزلت بين عام الحزن وبيعة العقبة الأولى ثم الثانية، وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول القرآن وهو قول جمهور العلماء، وفي ترتيب المصحف الشريف هي السورة الثانية عشر، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع ولا يعلم خلاف ذلك، وقد ورد في أسباب نزولها عدة أقوال منها:
* ما ورد عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما أن الصحابة سألوا النبي أن يقصّ عليهم فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3].
* أنَّ اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وبنيه وشأن يوسف فأنزل الله تعالى السورة على نبيه صلى الله عليه وسلم.
* أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فأنزل الله تعالى السورة.
ثالثاً: لمحة عن موضوع سورة يوسف:
تميزت سورة يوسف بأسلوب عرضها عن باقي السور، فهي تحكي قصة النبي يوسف -عليه السلام- كأنك تراها أمام عينيك بالصوت والصورة بدءًا من الرؤيا التي رآها وانتهاءً بتحقيقها، على الرغم من أن قصة يوسف عليه السلام ذُكرت في كتبٍ أخرى إلا أنها تميزت في القرآن الكريم بحبكها وتنسيقها وعجيب عرضها وبراعة تصويرها، وهي القصة الوحيدة من قصص الأنبياء التي ذكرت كاملةً وفي سورةٍ واحدةٍ ولم يذكر أي جزءٍ منها في سورةٍ أخرى، فالسورة كلها لحمةٌ واحدةٌ بطابعها المكي الواضح في موضوعها وإيحاءاتها، تناولت السورة قصة يوسف على أنه بشرٌ تعرض لصنوف البلاء والفتن، وشدة المحن من ترهيبٍ وترغيبٍ، لكنه انتصر عليها كلها وخرج منها طاهراً نقياً، ابتلاه الله تعالى بالضراء بداية من قبل إخوته حين كادوا له وأرادوا قتله فعدلوا إلى رميه في الجب حسداً وحقداً، ليتحول بعدها إلى سلعة بيد التجار تُباع وتُشرى بأبخس الأثمان وأزهدها، وحين وضع في السجن ظلماً وبهتاناً ليذوق ألم الحبس ومرارة الاعتقال، ومن قبله الألم النفسي جرّاء الافتراء الكاذب والاتهام بارتكاب الفاحشة مع زوجة الملك، وابتُلي كذلك بالسراء بداية بمحاولة الغواية له من قبل امرأة العزيز حينما راودته عن نفسه وغلّقت أبواب القصر وقد هيأت نفسها له، بل معظم نسوة المدينة فعلوا ما فعلت امرأة العزيز فلجأ إلى ربه ليصرف عنه كيدهن، وابتلي أيضاً بفتنة المال والسلطة والملك والقدرة ونشوة النصر والتمكين، وقد بُسطت أمامه الدنيا بزخرفها وزينتها، وجمالها وبهائها، فصان إرث النبوة ونجح في كل الاختبارات، فيمكن القول أن سورة يوسف موضوعها يدور حول قصة يوسف من الطفولة إلى الكبر، وأجمل موضوع القصة الشيخ الشعراوي – رحمه الله – في تفسيره فقال: “جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءاً من الرُّؤيا، ومرورًا بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيرا لقاء الأب من جديد”.
رابعاً: أبرز مقاصد سورة يوسف:
من خلال ما مرّ معنا في مناسبة نزول سورة يوسف يتبين أن أهم مقاصد نزول السورة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه لما كان يلقى من الأذى والأسى من أقربائه بتبيين طريق الدعوة وما يعترضه من ابتلاءات ومحن، ومصاعب وفتن، وذلك بعرض قصة يوسف عليه السلام بكل تفاصيلها وأحداثها ليحصل التأسي بيوسف عليه السلام، فكما مكّن الله تعالى ليوسف عليه السلام ونجاه من أذى أخوته وجعله عزيز مصر، سيمكن الله للنبي صلى الله عليه وسلم وينجيه من شر وأذى المشركين ويجعله عزيز الأرض بأكملها؛ ومن مقاصد هذه السورة أيضاً:
* بيان قصة يوسف عليه السلام وما فيها من عظات وعبر يستفيد منها كل من يسير في طريق الهدى ويسلك طريق الأنبياء.
* تسليط الضوء على قضاء وقدر الله تعالى أنه نافذ لا راد له، وأن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك والعكس كذلك، وهذا واضحٌ جليٌ في قصة يوسف عليه السلام.
* رسم معالم طريق الدعوة إلى الله تعالى الذي خطه الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، ليقتدي بهم ويتأسى بهديهم من سار على نهجهم.
* إبراز صفات الداعية إلى الله تعالى من تقوى وإحسان وصبر وإيمان، والثبات على الحق وعدم الحيد عنه قيد أنملة رغم كل المغريات والفتن والابتلاءات والمحن.
إلى غير ذلك من المقاصد التي أطنب علماء التفسير بذكرها في كتبهم ومؤلفاتهم، كإمام المفسرين الإمام الطبري – رحمه الله – فقد أشار إلى مقاصد السورة في أكثر من موطن وهو يتعرض لتفسير السورة كقوله: “إن الله تبارك وتعالى إنما أنزل هذه السورة على نبيه، يعلمه فيها ما لقي يوسف من أدانيه وإخوته من الحسد، مع تكرمة الله إيَّاه، تسليةً له بذلك مما يلقى من أدانيه وأقاربه من مشركي قريش، كذلك كان ابن إسحاق يقول: عن ابن إسحاق، قال: إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف، وبَغْي إخوته عليه وحسدهم إياه، حين ذكر رؤياه، لما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه وحسده حين أكرمه الله عز وجل بنبوته، ليأتسي به”.
خامساً: أثر سورة يوسف في طريق الدعوة:
إن سورة يوسف لها أثرٌ كبيرٌ في طريق الدعوة إلى الله تعالى، فمن خلال ما تقدم نجد أن السورة ما نزلت إلا لتبين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معالم الطريق، في وقت كانت فيه الدعوة الإسلامية في حالةٍ حرجةٍ تعاني صنوف المعاداة والمعارضة وقد عمد خصومها إلى مسّ أصحابها بشتى أنواع العذاب لصدهم وكفهم عنها، فكان للسورة دورٌ كبيرٌ في فهم حقيقة الصراع بين الحق والباطل، وبيان السبل التي ينبغي أن تسلكها الفئة المؤمنة للوصول إلى مرادها وتحقيق غايتها وأهدافها، وإن الواقع اليوم لا يختلف عن واقع الأمس، فالتاريخ يعيد نفسه وسنن الله ثابتةٌ لا تتبدل ولا تتغير، فإن ما تمرّ به الفئة المؤمنة الصابرة اليوم من صدٍّ وعدوانٍ وظلمٍ وبهتانٍ قد مرّ به الأنبياء والمصلحون على مر الأزمان في مختلف البلدان، وإن سيرة يوسف مثالٌ واضحٌ جليٌّ يمكن الاستفادة منه كما استفاد الأولون، وحريٌّ بكل مصلحٍ عاملٍ لدين الله تعالى أن يتأمل سورة يوسف ويقف عند كل مرحلةٍ من مراحل هذا النبي الكريم، فنجد أن السورة لها أثرٌ كبيرٌ في طريق الدعوة من خلال ثلاث نقاطٍ رئيسيةٍ:
* مثّلت السورة النموذج الكامل لمنهج الإسلام، فعرضت القصة شخصية يوسف عرضاً كاملاً في كل مجالات الحياة، وعرضت كل أنواع الابتلاءات التي تعرض لها يوسف عليه السلام بنوعيها، ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء فخرج منها نقياً خالصاً.
* الواقعية البحتة المتمثلة في السورة رغم تعدد الشخصيات واختلاف طبائعها، فلا يوجد فيها أي شيءٍ من ضروب الخيال أو التزوير أو ما ينافي الواقعية، مما يجعلك تقف أمام تجربةٍ بشريةٍ قابلةٍ للتطبيق.
* تصوير شخصية يوسف بأنه بشرٌ يعتريه ما يعتري البشر، وذلك في عدة مواقف وردت في السورة منها لما كاد أن يهم بامرأة العزيز، ودعاؤه الله أن يصرف عنه كيدهن وإلا فسوف يميل إليهن ويقع فيما كان يخشاه، ولما طلب الخلاص من السجن حينما أوصى السجين الذي نجا من السجن أن يذكره عند العزيز وغيرها من المواقف التي تبرز بشرية يوسف عليه السلام، وهذا إن دلّ فإنما يدل على أن الذي مرّ به يوسف عليه السلام سيمرّ به كل من سار على نهجه.
سادساً: أهم الدروس المستفادة من سورة يوسف:
إن سورة يوسف تذخر بالعبر والتوجيهات التي يمكن أن يستفيد منها الأجيال، لا سيما من سلك طريق الأنبياء في الدعوة والجهاد والنصح والإرشاد، ليهتدي الطريق ويتبين معالمه، فمن هذه التوجيهات:
* الإيمان بقضاء الله وقدره إيماناً جازماً لا يشوبه شكٌ ولا ريبٌ، واليقين التامّ بأن الضر والنفع بيد الله تعالى لا بيد غيره من المخلوقات، فالداعية المؤمن بقضاء الله وقدره يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائمٍ ولو اجتمع كل أعدائه على أن يضروه.
* التقوى والصبر رأس مال الداعية في طريق الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، فالتقوى فعل ما أمر الله وترك ما نهى، ولا يتأتى ذلك إلا بالصبر، فأداء الطاعة وتحمل مشقتها يحتاج إلى صبر، وهجر المعصية ومجاهدة تركها يحتاج إلى صبر، ولو تقصينا كل بلاءٍ وامتحانٍ وقع بيوسف – عليه السلام – لوجدناه تقياً صابراً في كل ما مرّ به، لذلك قال بعض العلماء: خلاصة سورة يوسف في آية واحدة وهي قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، قَالَ الشَّيْخ أبو مُحَمَّد عبد القَادر الجيلاني في كتاب فتوح الغَيْب: “لَا بُد لكل مُؤمن ِفي سَاِئر أحْوَاله من ثلَاثة أشْيَاء: أمر يمتثله وَنهي يجتنبه وَقدر يرضى بِهِ فَأقل حَالة لَا يَخْلو المُؤمن فِيهَا من أحد هَذِه الْأشْيَاء الثلَاثة فَيَنْبَغِي لهُ أن يلزم همها قلبه وليحدث بهَا نَفسه وَيَأْخُذ بهَا الجَوَارح فِي سَائِر أحْوَاله”، وقد علق الإمام ابن تيمية – رحمه الله – على كلام الجيلاني قائلاً: “هَذَا كَلَامٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ يَحْتاجُ إليْهِ كُلُّ أحَدٍ، وَهُوَ تفْصِيلٌ لمَا يَحْتاجُ إليْهِ العَبْدُ، وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لقَوْلِهِ تعَالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، وَلِقَوْلِه تعَاَلى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، فَإِنَّ التقْوَى تتضَمَّنُ: ِفعْلَ المَأْمُوِر وَتَرْكَ المَحْظُوِر وَالصَّبْرَ يَتضَمَّنُ: الصَّبْرَ عَلى المَقْدُوِر”.
* الإيمان بمعية الله تعالى لأوليائه المؤمنين وولايته أمرهم ونصرهم على عدوهم، والأخذ بأيديهم إلى طريق التمكين.
* الدعوة إلى التحلي بمكارم الأخلاق وحسن المعاملة مع الناس وتطهير النفس من الغل والحقد والبغض والحسد، والتجرد الخالص لله تعالى.
* من رحم الألم يولد الأمل، وفي طيات المحن تسكن المنح، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اشتد الحبل انقطع، وإذا عظم الظلام بدا الفجر وسطع، فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا، كل هذه المعاني نجدها مترسخةً في سورة يوسف.
وفي الختام:
إن الأمة اليوم تعيش غربةً عصيبةً وقد تكالب عليها الأعداء من كل حدبٍ وصوبٍ، هي بحاجةٍ إلى من يأخذ بيدها ويمهد لها طريق الإسلام لتصل إلى الغايات والأهداف التي خلقت لأجلها، وهذا لا يتأتى إلا بالتأسي والاقتداء بهدي الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والتفكر في سنن الله تعالى وتبني القضية والتضحية لأجلها وبذل المهج والأرواح في سبيل نجاحها، ولعلّ ما دونته في بحثي هذا يستفيد منه كل من يريد أن يكون خادماً لدين الإسلام حاملاً هموم أمته يرجو الخير لها، والله تعالى أسأل أن يتقبل مني هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، فهو حسبي ونعم الوكيل، وآخر ما أدعو به أن الحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا