فضل الهجرة وحقوق وواجبات أهلها – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٣٩ – المحرم ١٤٤٤ هـ
فضل الهجرة وحقوق وواجبات أهلها
الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن دخول سنة هجرية جديدة يجدد في أذهان مجاهدي زمننا قضية الذين هاجروا في سبيل الله وجاهدوا وصدقوا وصبروا وثبتوا، والأذى الذي نالهم من الخونة وأدعياء الجهاد والمتاجرين بالثورة، فكانت هذه التذكرة بفضلهم وحقوقهم وواجباتهم..
* الهجرة:
قال الأزهري في تهذيب اللغة: “أصل المهاجرة عند العرب: خروج البدوي من باديته إلى المدن، يقال: هاجر الرجل، إذا فعل ذلك، وكذلك كل مُخل بمسكنه منتقل إلى دار قوم آخرين؛ لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشؤوا بها لله ولحقوا بدار قوم ليس لهم بها أهل ولا مال حين هاجروا إلى المدينة، وكذلك الذين هاجروا إلى أرض الحبشة. فكل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدا آخر فهو مهاجر، والاسم منه الهجرة”.
فالمهاجر لغة هو المنتقل للسكن في بلد غير بلده، أما الهجرة شرعا فهي انتقال المرء للسكن في بلد غير بلده استجابة لأمر الله تعالى بالهجرة، ففي بيان الفرق بين الهجرة لدنيا والهجرة المشروعة، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» متفق عليه، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: “من كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر”.
وكانت الهجرة في أول الإسلام إلى المدينة واجبة على أهل مكة، ثم نسخ الأمر بذلك بعد فتح مكة وبقيت الهجرة إلى ديار الإسلام، ففي بيان نسخ وجوب هجرة أهل مكة إلى المدينة قال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه.
وفي بيان استمرار مشروعية الهجرة متى توفرت أسبابها، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه أبو داود والنسائي.
وكلمة المهاجر عند الإطلاق يراد بها المهاجرون الأول من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن رشد في المقدمات الممهدات: “كانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة على من أسلم من أهلها واجبة مؤبدة، افترض الله عليهم فيها البقاء مع رسوله عليه السلام حيث استقر، والتحول معه حيث تحول، لنصرته ومؤازرته وصحبته، وليحفظوا عنه ما يشرعه لأمته، ويبلغوا ذلك عنه إليهم ولم يرخص لأحد منهم في الرجوع إلى وطنه..، وهم الذين سماهم الله بالمهاجرين، ومدحهم بذلك فلا ينطلق هذا الاسم على أحد سواهم..، و.. الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر ألا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم”.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: “«ولكن جهاد ونية»، قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك”.
قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: “تجب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام على مستطيع لها إن عجز عن إظهار دينه..؛ سواء الرجل والمرأة وإن لم تجد محرما، وكذا كل من أظهر حقا ببلدة من بلاد الإسلام ولم يقبل منه ولم يقدر على إظهاره تلزمه الهجرة منها، نقله الأذرعي وغيره عن صاحب المعتمد، ونقله الزركشي عن البغوي أيضا، واستثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان في إقامته مصلحة للمسلمين فيجوز له الإقامة، فإن لم يستطع الهجرة فهو معذور إلى أن يستطيع”.
فالذين خرجوا وأُخرجوا وهاجروا وهُجِّروا من ديارهم اليوم بسبب حكم الكفار لها وبسبب الطغيان، وانتقلوا إلى ثغور الجهاد ونصرة المسلمين واحتسبوا الأجر من الله في ذلك، سلكوا سبيل الهجرة في سبيل الله تعالى.
* فضل الهجرة:
للهجرة عند الله تعالى فضل عظيم، وهي درجات؛ أعظمها هجرة الصحابة الأول، ثم هجرة من لحق بهم من الصحابة بعد ذلك، ثم من استن بسنتهم إلى يوم الدين..، ومن تلك الفضائل:
– مغفرة الذنوب ودخول الجنة، قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)، وقال جل وعلا: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، والآيات في هذا المعنى عديدة.
وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» رواه مسلم، وهذا الحديث مقصود به الهجرة من مكة إلى المدينة، وفضل الله عميم.
– التمكين وحسن العاقبة في الدنيا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
وقال جل وعلا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ).
وقال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً).
وقال جل وعلا: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)، قال السعدي في تفسيره: “هذه بشارة كبرى لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله، ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدا في سبيل الله، (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا) في البرزخ، وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح والريحان، والحسن والإحسان، ونعيم القلب والبدن، ويحتمل أن المعنى أن المهاجر في سبيل الله، قد تكفل برزقه في الدنيا، رزقا واسعا حسنا، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه، أو يقتل شهيدا، فكلهم مضمون له الرزق، فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله، سيفتقر ويحتاج، فإن رازقه هو خير الرازقين، وقد وقع كما أخبر، فإن المهاجرين السابقين، تركوا ديارهم وأبناءهم وأموالهم، نصرة لدين الله، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى فتح الله عليهم البلاد ومكنهم من العباد، فاجتبوا من أموالها ما كانوا به من أغنى الناس، ويكون على هذا القول، قوله: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ) إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصا فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزق الدنيا ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع”.
* حقوق من هاجر في سبيل الله:
لمن هاجر في سبيل الله حقوق عديدة؛ منها:
– الإيواء والنصرة والموالاة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال جل وعلا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ).
– المحبة والإكرام والإيثار والدعاء، قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
– العفو والصفح، قال تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
* واجبات من هاجر في سبيل الله:
على من هاجر في سبيل الله واجبات ومسؤوليات وآداب عديدة؛ منها:
– صدق الهجرة، فقد سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ويحك، إن شأن الهجرة لشديد» متفق عليه، قال النووي في شرح مسلم: “قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه، فخاف عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى لها ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه، فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد”، فالحديث وإن كان مخصوصا بحادثة معينة فإنه يفيد أمرا عاما وهو ضرورة الصدق في الهجرة وتحمل المشاق في سبيل ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “عباد الله هاجروا ولا تَهجَّروا” رواه الحاكم في المستدرك، قال أبو عبيد في غريب الحديث: “أخلصوا الهجرة، ولا تشبهوا بالمهاجرين على غير صحةٍ منكم، وهذا هو التهجر، وهذا كقولك للرجل: هو يتحلم وليس بحليمٍ، ويتشجع وليس بشجاعٍ، أي: أنه يظهر ذلك وليس فيه”، قال ابن سعد في الطبقات: “سئل عاصم عن قوله: “هاجروا ولا تهجروا”، فقال: كونوا مهاجرين حقا ولا تشبهوا بالمهاجرين ولستم منهم”.
– حسن الالتزام بآداب الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» رواه البخاري، قال ابن بطال في شرح البخاري: “أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط”.
– حسن الوفاء لمن ناصرهم، فالجزاء من جنس العمل، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه، قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» رواه أبو داود.
ومن أمثلة ذلك أن الأنصار بالمدينة واسوا المهاجرين بأموالهم، فلما جاءت الغنائم واستغنى المهاجرون عن أموال الأنصار ردوا للأنصار بعض ما بقي في أيديهم، قال مسلم في صحيحه: “باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح”، وذكر فيه قول أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم».
وقد قال صلى الله عليهم وسلم عن الأنصار: «قد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» رواه البخاري، فيلحق بهم من أحسن لمن هاجر في سبيل الله ووفاهم حقهم، فيكافؤون على جميل صنيعهم بالجميل.
– الثبات على الهجرة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم «إذا عمل عملا أثبته» رواه مسلم، وكان من علامات صحة الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعود المهاجر لسكنى مكة بعد أن هاجر منها ولو كان ذلك بعد الفتح، قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: “كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله وماله، لا يرجع في شيء منه، وينقطع بنفسه إلى مهاجره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها، فمن ثم قال: «لكن البائس سعد بن خولة» يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، وقال حين قدم مكة: «اللهم لا تجعل منايانا بها»”.
أما من هاجر بعد فتح مكة فلا تحرم عليه الإقامة ببلده إن تغير سبب هجرته منه، لكن أن يقيم بها قبل أن يتغير السبب بلا داع شرعي فهذا من ترك طريق الخير، قال ابن رشد “الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة..، إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه إن عاد دار إيمان وإسلام كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة للذي ذخره الله لهم من الفضل في ذلك”.
وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم كالقرطبي وابن حجر، قال القرطبي في المفهم: “وهذا الخلاف وإن كان فيمن مضى حكمهم وانقرض عصرهم وهجرتهم الخاصة بهم، لكن يبنى عليه خلاف فيمن فرَّ بدينه عن موضع ما يخاف فتنته وترك فيه رباعًا، ثم ارتفعت تلك الفتنة؛ فهل يرجع لتلك الرِّباع أم لا؟ فنقول: إن كان ترك رباعه لوجه الله تعالى كما فعله المهاجرون فلا يرجع لشيء من ذلك، وإن كان إنما فرَّ بدينه ليسلمَ له ولم يخرج عن شيء من أملاكه فإنه يرجع إلى ذلك كله؛ إذ لم يزُل شيء من ذلك عن ملكه”، ولكن لعل قولهم مرجوح؛ فإن ترك المكان والديار لوجه الله تعالى لا يلزم منه التنازل عن الملكية.
* رحم الله كل من هاجر في سبيله وكل من نصر دينه وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة BDF من مجلة بلاغ اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا