إعدادٌ أم إخلاد؟! -كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد السادس والثلاثون شوال ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
مجزرة حيّ التضامن، وأمثالها كثيرٌ، ما عُلم من غيرها أعظم، وما خفي أعظم وأعظم، ما كانت هذه المجازر التي حدثت بالذبح أو التقطيع بالسواطير أو الردم أو الحرق أو الاغتصاب أو القصف المدفعي والصاروخي أو بالطيران الحربي أو البراميل أو الغازات السامة، أو غيرها من وسائل، ما كانت لتستمر أو تمر بغير حساب وعقاب من أقل الممكن المستطاع إلى أكثره لو أن الثورة السورية حرة، نعم إنها من سنواتٍ ثورةٌ مقيدةٌ تنتظر فرصةً لنيل الحرية، ثم يكون ما فعلته بدايةً وأكثر، وما تفعله الثورات عادةً..
“صمتنا إعداد” هذه العبارة يكررها أتباع الفصائل أو الفصيل الأكثر براغماتيةً وبهرجةً إعلاميةً، “العضاريط” منهم يرددونها كثيراً، لكن ما حقيقة هذه العبارة؟، وهل الصمت عن كل شيء؟، أم فقط عن التعرض للعدو؟!، وهذا الإعداد هل يظهر منه بعضه عند الحاجة وفي المناسبات المُحرجة كمناسبة انتشار مقاطع الفيديو التي تظهر جزءاً شنيعاً من إجرام النظام النصيري الآمن، أم أنه إعداد من نوع آخر؟!.
الإعداد الحق: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وإن إرهاب العدو لا يكون بإنشاء الحكومات وما تحتها من إدارات إلا بقدر الحاجة الملحة والضرورة، وأكثر من ذلك لا يكون بتشييد الأبنية الفارهة وسلاسل المطاعم الفخمة وحدائق الحيوان وغيرها من مرافق ترفيه، من يرى أنها ضرورية فليراجع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أو يفكر على الأقل بأنها عَرَضٌ زائلٌ بالطريقة التي زالت فيها المشافي والمدارس والمساجد والقرى والأحياء على مدى عشر سنواتٍ من الحرب على أهل السنة في سوريا.
إن الرُّكونَ إلى هذه المظاهر المادية والزينة الدنيوية التي ترضي الجهات الدولية إخلاد وليس إعداد، وإنه يرهب فاعله الذي تصبح خشيته من الحرب على إنجازاته المادية ومكتسباته المصلحية كخشية الله أو أشد خشية، ويستمر الصمت مهما حدث طالما أن الذي ركن يسيطر على “كنتونٍ” صغيرٍ ويستمر “الإعداد”.
ومما يثير السخرية والاشمئزاز أنه يدعي أمان المنطقة حتى دعا النصارى الذين خرجوا من إدلب خوفاً على أنفسهم منه -سابقاً- إلى العودة، ولست ضد عودتهم، لكني أشير إلى هذه الدعوة على أنها دليل على الركون والإخلاد، وفي تصريح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار دليل آخر، قال: “لم تؤد الحرب الروسية ضد أوكرانيا إلى تغييرات جوهرية في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، يمكننا القول إنه لا يوجد فرق كبير”.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 – 176]، انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك يصير صاحبه متصفاً بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس. فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه. وَلَكِنَّهُ فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، أي: لا يزال لاهثاً في كل حالٍ، وهذا لا يزال حريصاً حرصاً قاطعاً قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا. (تفسير السعدي).
كانت الورطة الروسية في أوكرانيا فرصةً عظيمةً للكرّة بعد الفرّة وللفرحة بعد الحسرة، لو كانت عبارة “صمتنا إعداد” صادقة تدل على المعنى الحق للإعداد، لكنه حقيقةً استمرارٌ في بناء نظام مصغر عن النظام الذي ثرنا ضده، بعسكره وأمنه وسجونه، وتنتشر شعب التجنيد في مدن المحرر شيئاً فشيئاً، لا لتثبت فكرة الجهاد، بل لتنزع محتواها ومعناها وتثبت فكرة الوظيفة والراتب وخدمة القائد الألمعي المفدى، ومعلومٌ أن الجيوش المملوكة غير قادرةٍ على المناورة ولا أخذ زمام المبادرة ولا المباغتة، والأنكى أنه يلاحق القادرين على ذلك ويزجهم في السجون، ويستمر في قص المنعطفات ومفاجأة اتباعه بمُحرج الألوان، إذاً يصمتون عندها، ويقولون: “صمتنا إعداد”…
صرح العقيد السابق لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي إيغور ستريلكوف بالتالي: “عملية التقدم في دونباس محكوم عليها بالفشل بسبب عدم كفاية الأعداد وانخفاض مستوى التدريب والخسائر الفادحة وغباء القيادة العسكرية”… فإذا علم المراقب المنصف الشاهد لله أن الزخم العسكري الروسي بكل جوانبه في أوكرانيا أكثر بكثير منه في سوريا، والرد الأوكراني مشتعل على الكثير من الجبهات والمحاور، يتأكد المرة بعد المرة أن الغباء العسكري الروسي قوبل بغباء مضاد من جهة قيادة الفصائل الثورية، إذ كان العدو يلتزم بمحور قتالٍ واحدٍ غالباً يصب عليه كل قدراته البرية والجوية، وتلتزم به القيادة العسكرية من جانب الثورة دائماً، كأنها وقعت اتفاقية أو عاهدت عهداً لا تخلفه!!!.
كنا نقرأ عن الويلات التي انهالت على المسلمين عند غزو المغول بلادهم، ولقد أزعجنا كثيراً سوء تصرف الخليفة العباسي المستعصم بالله الذي لم يجيش الجيوش لقتال العدو واكتفى بسلطته الواهنة على “كنتون” بغداد، ثم استسلم وسلم البلاد والعباد، فقتله المغول ركلاً بالأقدام، كان يسعه أن يكون صمته إعداداً حقيقياً حين استطاع، لا ريب أنه نادمٌ الآن… ولقد أزعجنا الوهن الذي أصاب المسلمين حينها، حيث كان المغولي يتعب من القتل فيترك الجماعة منهم لبعض شأنه ثم يعود ليكمل القتل وهم واقفون!، كان يسعهم أن يَقتلوا ويُقتلوا في صفقة رابحة مع الله عز وجل، لكن الحياة التي تتقلص معانيها لتقتصر على الأكل والتمتع واللهو من استطاع إليه سبيلاً حياة ذليلة بالتأكيد ويعقبها موت ذليل، إنها الهزيمة النفسية الذاتية وما يترتب عليها من عقاب، والعياذ بالله.
علمتم لماذا أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال : 67]؟، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (تفسير القرطبي)، حتى يثخن في الأرض، يغير ميزان القوى ومعادلة الصراع، يخرج من بوتقة الضعف والاستهداف، تنجح ثورته على الجاهلية في تثبيت أركانها وتحقيق تغييرٍ “راديكاليٍ=جذريٍ” مفروضٍ من الله عز وجل، وكل انشغال بعرض الدنيا قبل تحقيق هذا الهدف يؤدي إلى الانحراف عن الغاية كلها، إذ يكل الله الراكنَ إلى نفسه ويحرمه التوفيق فيَهلك ويُهلك.
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، هذه آيةٌ فاصلةٌ توضح معنى هذا المقال وتؤكده، فالمال والجاه الذي حازه بعض المتسلطين، وما يتبعه من منشآتٍ ربحيةٍ، ومؤسساتٍ تزيينيةٍ يفتخر بها بعض الإعلاميين الكبار والصغار، والمساكن الفخمة وتلك المصنوعة من القماش أو الطوب، التي ارتضاها كل من الملأ والرعية، ثبطت عن الجهاد لاسترداد الحقوق المغصوبة، وتحرير الأرض والعرض وكل الأسرى، وإقامة شرع الله في أرضه.
لقد علمت أن هذا سيكون عندما يصنع وهمٌ أو حقيقةٌ ماديةٌ يخشى عليها المخادعون والمخدوعون من جانب الثورة في رقعةٍ جغرافيةٍ صغيرةٍ، أكثر مما يخشى العدو على ما عنده في رقعةٍ جغرافيةٍ أكبر، وكان تعليقي على إنشاء حكومة الإنقاذ: “إنها خطوة غبية”، إذ يكفي أن تكون إدارة، (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى)، ولقد قلت للرئيس الثاني للحكومة الأستاذ فواز هلال: “أنتم بأدائكم وتبعيتكم إدارةٌ ولستم حكومةً”، ورغم ذلك كنت أدعو بالنجاح عسى ولعل… ثم علمت من عضوٍ في مجلس الشورى في هيئة تحرير الشام أمام شاهدٍ آخرٍ، أن عبد الرحيم عطون “أبو عبد الله الشامي” قال في جلسة الشورى يوماً: “سيأتي يوم نسلم ما في أيدينا للحكومة المؤقتة”، فهاج بعض القوم وأسكتهم الجولاني، على هذا إن الذي يرى الواقع بتسلسل أحداثه يدرك أن الاستمرار في هذا المنحدر يؤدي إلى تنازلاتٍ أكثر وعودةٍ إلى البوتقة الأولى، حيث كان النظام النصيري يسيطر لصالح النظام الدولي، إنه مآل خطير وهو أشنع من الأول بحكم التغني والتمني وصغر بوتقة الصهر والاحتواء.
يذكرنا بعض أعدائنا بإجرام أعداء آخرين، حسب المصلحة وضرورة التوظيف، ويستمر تكشف الحقائق، ويستمر الصمت، ويستمر الإعداد!.
اللهم أصلح شأننا، وانصرنا على عدوك وعدونا