الفقرُ والقهرُ ومذمومُ الصَّبرِ | كتابات فكرية |مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢هــــ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام : 18].
الفقر والقهر من الله ابتلاءٌ ومن غير الله اعتداءٌ، وإن النَّفسَ المؤمنةَ المتحرِّرةَ من العبوديةِ لغير الله تشعر بضيم الفقر والقهر وتأباه إن كان مصدره من الخلق بقدر ما ترضاه إن كان مصدره من الخالق جلَّ وعلا.
إن بُغضَ الفقر والقهر ليس حكراً على المؤمنين، بل إن كل البشر بفطرتهم وبما يحتاجون في حياتهم الدنيا من حاجاتٍ ضروريةٍ وملحَّةٍ يبغضون الفقر والقهر، ويسعون إلى الخلاص منهما.
ولقد قال الكثير من أهل الفكر والكلمة من كل الملل والنحل كثير المقال فيهما، وإن أسمى ما قاله بشر أحاديثٌ صحيحةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، استعاذ فيها بالله من الفقر والقهر وما يشابههما من رزايا، ما قالها إلا عن وحيٍ يوحى من رب العالمين.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ” متفق عليه.
وعَن أَنسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخلِ وَالجُبنِ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ” صحيح البخاري.
ونُسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، ونسب إلى أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنه قال: “عجِبتُ لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!”، ولقد أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدَّ السرقة في عام الرمادة بسبب المجاعة وشيوع العوز بين الناس.
قال لقمان الحكيم: “حملت الجندل والحديد وكلَّ شيءٍ ثقيلٍ فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئاً هو أمر من الفقر”.
قال أهل الهند في المثل: “يصنع الفقر لصوصاً، كما يصنع الحب شعراء”.
وقال كونفوشيوس: “في ظلِّ حكومةٍ فاضلةٍ الفقر عارٌ، وفي ظلِّ حكومةٍ سيئةٍ الغنى هو العار”.
وقال أرسطو: “الفقر هو أصل الثورة والجريمة”.
قال جون ستيوارت: “إن خطر الاضطهاد لا يكمن فقط في أن يكون المرء مضطهداً بل أن يصبح قاتلاً”.
قال توماس بين: “ذلك الذي يسعى إلى حريته الشخصية يجب عليه أن يحمي حتى أعداءه من القهر”.
وقال أدولف هتلر: “الفقر هو صنوُ الجهل وصنو المرض، ومتى اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة ومات في النفوس كل شعورٍ وطني”.
وقال تشي جيفارا: “الذي قال: إن الفقر ليس عيباً، كان يريد أن يكملها ويقول: بل جريمةٌ، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحار”. وقال: “طالما أن القهر موجود، فسيكون هناك من يناضل ضده، أحلامي لا تعرف حدودا”ً.
قال مالكوم إكس: “إن لم تكن حذراً فإن الصُحُفَ ستجعلك تكره المقهورين وتحب أولئك الذين يمارسون القهر”.
قال سيمون دي بوفوار: “كل اضطهاد يخلق حالة حرب”.
ولئن كان الصبر على الفقر الذي هو ابتلاء من الله والاستسلام للقهر الذي هو منه عز وجل فضيلةً يؤجر صاحبها، فإن العكس بالعكس دائماً وأبداً، فلا يصبر صبر المستسلم على الإفقار وقهر الرجال إلا من ذَلَّت نفسه وركن إلى الوَهَن وانحطَّت كرامته التي وهبه الله تعالى إياها عليَّةً غيرَ ممتهنةٍ.
قال الشاعر:
لا تخضعنَّ لمخلوقٍ على طمعٍ
فإن ذلك نقصٌ منك في الدِّينِ
واسـترزق الله مما في خزائنهِ
فأمر ربك بين الكافِ والنُّونِ
وهذا الصبر على الضَّيم مذمومٌ تأباه الأنفس فطرةً وإيماناً، فلقد أمر الله عزَّ وجلَّ بدفع الصائل ورفع الضيم في القرآن الكريم وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالصبر المحمود الذي بيَّنه الله عزَّ وجلَّ يمدح به عباده: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 146]، ولقد مدح المؤمنين بأنهم الأعِزَّةُ، وعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالعمل، وأمر برفع الظلم عن النفس والمال والعرض، ولو أدَّى ذلك إلى قتل الظالم وهو في النار أو المظلوم وهو في الجنة.
ومن الأمم الأخرى مُدِحَ الروم بأنهم أرحم الناس لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ، وأمنعهم من ظلم الملوك، ومن الأمم من لا يصبر على ضيمٍ ولا يحمل عار الهضم، ومنهم من يطول صبره المذموم وتدوم استكانته، فلا يُرفع عنه ظلمٌ واستبدادٌ إلا ببديله، ولقد يعلم المتصفِّح للتاريخ قديمِه وحديثِه أيَّ الشعوب قام بثورةٍ أو ثوراتٍ يرفض فيها الفقر والقهر إن كانا اعتداءً من الخلق حكاماً كانوا أو محتلين.
قال الأمريكيون في المثل: “تسير الثورات على البطون الفارغة”.
قال علي عزت بيغوفيتش: “إن المجتمع العاجز عن التَّديُّن، هو أيضاً عاجزٌ عن الثورة”.
قال توماس جيفرسون: “الثورة على الطغيان طاعة للرب”.
قال وليم شكسبير: “إياك أن تؤذي نفسك بالصبر على علاقاتٍ كثيرة الاستفزاز، كثيرة الوجع، مليئةٍ بسوء الظن”.
وقال تشارلز ديكنز: “يجب على المرء أن يعتصم بالصبر، حبًّا بالحرية”.
قال سلمان العودة: “إن الإصلاح الجاد يستحق التضحية وليس الخسارة؛ لأنه أفضل طريق تكافح به الثورة”.
إن قهر الناس ضرب من الاستعباد ولو كانوا أحراراً في الظاهر، نُسِبَ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولٌ شهيرٌ ضعيف السَّندِ ينطق بمقصود الشرع وسليم العقل، قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، في مناسبة مظلمةٍ لا يُشرع الصبر عليها ولا يستحب.
فالصبر المستحب هو الذي يكون عن قدرةٍ تامةٍ فيكظم صاحبها ويعفو ويُحسِنُ ابتغاء وجه الله، أو عن عجزٍ تامٍ لتحصيل الأجر وانتظار الفرج، لكنه لا يكون على خنوعٍ واستكانةٍ مع توفر الأسباب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد : 22]، ولا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه.
يقول مارتن لوثر كينغ: “لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت له”.
وإن من الانحناء للظالم أن يُسلم الناس قيادهم له، ولا يراجعونه بعدها بأمرٍ ولا نهيٍ، يُضِلُّهم عن حقوقهم وواجباتهم الجاهلون وعلماء الفسق والسوء، فيستمر الفقر والقهر والعسف يضغط على الأنفس حتى تعتاده أو تسأمه فتسعى إلى التغيير، وإن الصبر على الأذى كائنٌ بذِلَّةٍ واستكانة أو عِزَّةٍ وجهاد، لكنه في الأولى مذمومٌ عاقبته مذمومة، وفي الثانية محمودٌ عاقبته محمودة، خلاص من الدنيا أو خلاص فيها، {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة : 51 – 52].
ولا يلام مظلومٌ؛ فهو إما صابرٌ بأجر أو آخذٌ بحق، بل يلام من ابتدأ بالظلم ولم يرعو.
أما والله إن الظلمَ شؤمٌ
وما زالَ الظَّلومُ هو الملومُ
إلى ديَّان يوم الدين نمضي
وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ
الأستاذ أبو يحيى الشامي
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢ هـ